مبكراً في مشواري الإعلامي الممتد لأكثر من خمسة وعشرين عاما أدركت ذلك…تغطيات لأزمات ومآس وكوارث شردت وقتلت وأعطبت القلوب قبل الأجساد… شهود يقف الإعلاميون لنقل هذه المآسي وقلوبهم تعتصر ألما … فهذا الآخر الذي نروي قصته ليس رقما في سجل المفقودين والمقتولين والنازحين واللاجئين والمشردين … هو قصة بدأت فصولها الأكثر مأساوية عندما تحط الكاميرا لتوثيق ما حدث…
أيا كانت الكارثة فما تخلفه وراءها يفوق كل وصف ويحتاج لأكثر من التوصيف أو التوثيق… يحتاج يدا حانية ومعطاءة تمسح الدموع وتضمد الجراح تنتشل الحطام وتبني ما تهدم…
رأيت ذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مكان… ففي عتمة اليأس ينبعث الأمل ويظهر الإنسان أفضل ما فيه عندما يتخلى عن رفاهية أنانيته ويفزع للمحتاجين…
ذات أكتوبر من سنة 2015 كنت أتأهب لتغطية الأحداث على الحدود السورية التركية، حينها كان القصف قد اشتد على السوريين العزل فهربوا من قراهم وبيوتهم الآمنة إلى المجهول بحثا عن الأمان…
كانت من أصعب التغطيات التي مرت عليّ ليس للتعب الذي كنا نعانيه، وليس لكمية الجهد وعناء السفر، وليس للمخاطر المحدقة بنا والتي قد تجد طريقها إلينا في طرق ومسالك غير اعتيادية …ليس لكل هذا فهذا صلب عملنا … بل للوجوه التي ظلت عالقة في ذاكرتي في قصص هؤلاء النازحين واللاجئين، تارة في خيم نصبوها على قارعة الطريق وتارة في العراء …لن أنسى تعابير وجوههم و لن أنسى ما جعلني كل ذلك أختبره من مشاعر عجز أمام مآسيهم…
زوايا لا تنقلها كاميرات التلفزيون
مهم أن تنقل معاناتهم، مهم أن تنقل روايتهم، مهم أن تمنحهم إمكانية للتعبير عما تكبدوه … مهم أن تذّكر الضمير العالمي بمأساتهم…لكن كل ذلك لم يكن كافيا لأنعم بشيء من السلام كلما تذكرت تلك الطفلة العاجزة التي حملها والدها أبو القاسم و هو يروي معاناة خروجهم من بيتهم في الرقة تحت القصف وصولا إلى هذه الخيمة التي نصبوها مع عشرات آخرين على هذا الشريط الحدودي … لن أنسى كلماته و هو يدعوني للدخول إلى الخيمة لتفقد أحوالهم التي تفتقد لأدنى مقومات الحياة…في تلك اللحظة اختلطت علي مشاعر الصحفية و الأم و الإنسانة و شعرت بعجز تام…
استمرت المهمة أياما وكنا نقف عند كل تجمع للنازحين واللاجئين وفي كل محطة عشرات القصص… إلى أن وصلنا إلى مخيم يشبه المدينة الصغيرة … فيه كرفانات تضم العائلة.. أسرة يخلد إليها الكبار للنوم ومدرسة تضم بين جدرانها الأمل بغد أفضل…هناك التقيت أحمد وفاطمة ومحمد ويزن وآخرين … أخبروني عن أحلامهم وسألتهم مترددة هل أنتم سعداء في هذا المخيم؟ أحمد الذي كانت تشع عيناه ذكاء بادر بالجواب هنا أفضل من الخيم …سأدرس وأتخرج وأعمل وأعود إلى سوريا لنبني بيتنا هناك من جديد…
في كلماته البسيطة كان الجواب … هنا وضع مؤقت لحين أن يستجمع الضعيف قوته و يكمل الطالب مشواره العلمي هنا استمرار للحياة بالموجود في انتظار الأفضل…هنا بارقة أمل بعد عتمة الأزمة… هنا يد امتدت لتضمد الجراح و تمسح الدموع و تمنح الأمل من جديد…هنا أيادي خير امتدت من بلدان عدة من تركيا و من قطر و من الكويت و غيرها تشيد مخيمات تمنح المأوى بعد تشرد و المأكل بعد جوع و الدفء بعد البرد …إلى أن يكبر أحمد و محمد و فاطمة و يزن و تكبر أحلامهم لتصبح واقعا أفضل … في انتظار ذلك لا يترك هؤلاء دون أمل و دون مأوى، تشيد لهم المخيمات و البيوت و المدارس، تمد لهم يد العون لإكمال حياتهم و الاستمرار في الأمل…
لم تكد المهمة تنتهي حتى اتصل بنا أحد الخيرين ممن تابع قصة أبو القاسم وابنته وتكفل بهما وبعلاجها وكل مصاريفهم…قفز قلبي فرحا وهنا أدركت أن العمل الإعلامي الهادف والعمل الخيري أحدهما يكمل الآخر وهما وجهان لعملة واحدة…
نشر قيم الإنسانية والذود عن المظلوم ونصرة المكلوم ومد يد العون
في وسط حطام القصص التي تخلفها المآسي تنبعث شرارة أمل وسط العتمة هم شهود من نوع آخر لا بل هم جنود… متطوعون لانتشال الحطام وتضميد الجراح وغوث اللاجئ والجائع والمكلوم … فإن كان الإعلامي شاهدا على بدايات الكوارث لنقل صورة الواقع فإن القائمين على المؤسسات الخيرية هم اليد التي تعمل بجد لتغيير هذا الواقع للأفضل ومنح أمل لمن فقده. كل التحية والشكر والعرفان لهؤلاء الذين يؤثرون البقاء في الكواليس حينما نتولى نحن مهمة الوقوف أمام الكاميرا.
المقال منشور في العدد 24 من مجلة غراس
يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة