يمكن لصور فوتوغرافية إنسانية ومؤثّرة أن تهزّ وجدان العالم، وتحدث الكثير من ردّات الفعل الدولية، وتلفت أنظار الرأي العام إلى الكثير من الحقائق المؤلمة عن الأزمات التي تدور من حوله، سواء كان غافلا أو متغافلا عنها. وتضعه أمام مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية. هذا ما حدث عندما انتشرت في غضون 24 ساعة صورة جثة الطفل السوري اللاجئ إيلان ذي السنوات الثلاث قرب أحد السواحل التركية عقب انقلاب القارب الذي يقله مع أسرته في عرض البحر المتوسط وموته وموت أمه وأخيه غرقا وهو يحاولون الوصول لليونان في الثاني من سبتمبر 2015.
ستتعرف عبر هذا مقال “صور إنسانية” على:
صدمة صورة “أيلان”
من أبرز التأثيرات التي صاحبت صدمة نشر الصورة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في حينها:
- إعلان عشرات الجمعيات والمنظمات الخيرية في أوروبا عن زيادة كبيرة في التبرعات التي تم جمعها خلال الفترة التي تلت حادثة غرق الطفل.
- خروج الآلاف من الناشطين الأوروبيين لاستقبال اللاجئين وتقديم الطعام والشراب والمساعدات لهم في كل من ألمانيا والنمسا.
- ارتفاع نسبة أعداد الراغبين من المواطنين السويديين بفتح أبواب الهجرة سجل ارتفاعا بنسبة 8٪ خلال أسبوع واحد بعد الحادثة.
- في عام 2017 وفي لفتة إنسانية بمناسبة الذكرى المئة لاستقلالها، طبعت فلندا صورة لجندي تركي يحتضن الطفل أيلان على عملتها الوطنية بهدف لفت الانتباه إلى ضرورة الالتزام بحقوق الإنسان.
- إعلاميا: تم نشر صورة إيلان في الصفحات الأولى للجرائد الأوروبية وصحف باقي دول العالم، وأعلنت جامعة شيفيلد أنها ستقوم بوضع الصورة إيلان ضمن منهاجها التدريسي الخاص بوسائل الإعلام البصرية، فيما صدرت صحيفة “بيلد” الألمانية ليوم واحد بدون صور؛ لتدلو بدلوها في النقاش القائم حول صورة الطفل الغريق، وبررت فعلها برغبتها في إظهار أهمية الصور الإنسانية في مجال الصحافة.
صورة أيلان ليست الوحيدة التي تحولت لإيقونة راسخة في الأذهان خلال هذا القرن الماضي والحالي بل هناك صور أخرى (وإن كانت قليلة) مثل صورة الفتاة الفيتنامية ذات التسع سنوات، التي فرّت متأثرة بحروق شديدة على الجلد جراء الهجمات بقنابل النابالم في عام 1972. وطفل مجاعة السودان الذي نشرت صورته في صحيفة النيويورك تايمز عام 1993 فأوجع قلوب الملايين حول العالم بجسده النحيل الذي هدّه الجوع وقد ترك وحيدا، ومن ورائه نسر يراقبه وينتظر موته لينقض عليه.
تساؤلات مهمة
وقد طرحت صورة أيلان والصور الإنسانية المؤثرة عددا من التساؤلات الهامة لعل أبرزها:
- قد تكون هناك صور قاسية مؤلمة، لكن سرعان ما تختفي من الذاكرة بعد مرور وقت قليل، فما الذي يجعل صورا معينة متوهجة في الذاكرة وراسخة للأبد أو لأمد طويل؟
- إلى أي حد يحدث التأثير العاطفي مع هذه الصور سلوكا عمليا في الجمهور ..وهل هو دائم أو مؤقت ؟
- هل يمكننا القول إنه يمكن لشخص واحد التأثير على العالم بأسره أكثر من تأثير الإحصاءات التي تبين أعداد ضحايا الحروب أو المناظر الجماعية للضحايا؟
- ماهي الإشكالية الأخلاقية المرتبطة بالتقاط هذه الصور؟
أنسنة الكوارث
يؤمن مؤرخ الفن فيليكس هوفمان بقوة الصور الفوتوغرافية الإنسانية التي تصبح رمزا ولكنه يرى أن عليها:”أن تؤثر وتغيّر الفكر والسلوكيات الإنسانية، بشرط أن تظل لوقت طويل وأن ترسخ في أذهان الناس”.
وقد حاول هوفمان الذي يجري منذ عدة سنوات دراسات علمية حول تأثير التصوير تفسير تأثير صورة الطفل إيلان في مقابلة له مع قناة (DW) الألمانية، فقال: “الصورة تمتلك القدرة على (أَنْسنة الكوارث)، ومنحها وجها وشكلا معينين، وبدون هذه الصور لن يستطيع الكثير من الناس استيعاب حجم وخطورة وأبعاد الحرب والكوارث”.
وأشار إلى أن صورة جثة الطفل إيلان الذي وجدت مرمية على شاطئ قرب مدينة بودروم التركية أحدثت “صدمة عاطفية” في الجمهور وفيه شخصيا باعتباره أب. لذا فإن صور تدفق اللاجئين السوريين التي كانت ترى ـ آنذاك في وسائل الإعلام ـ أخذت طابعا شخصيا وأصبحت ملموسة عبر قصة واقعية مثيرة. وإضافة إلى ذلك فإن كثيراً من الناس يشعرون بالتعاطف، ويقولون:” يمكن أن يصيب ذلك أطفالنا أيضا”.
ويشير إلى أن شعور التعاطف لا ينشأ أحيانا مع الصور “إلا إذا ربطنا علاقة حب معينة مع صورة ما، حتى عندما يموت شخص. ففي ظل طوفان الصور، التي تعكس المعاناة والألم، سنتعاطف فقط مع تلك الصور، التي أثارت شفقة فينا، وخاصة لأنها تظهر حقيقة ما يحدث”.
التأثير النفسي للصور الإنسانية
ولدراسة أثر الصور الإنسانية المتوهجة على عواطف الناس (التأثير العاطفي) وحدود هذا التأثير قامت المؤسسة الإعلامية “npr” بمحاورة الباحث النفسي “بأول سولفيك”، رئيس البحوث في جامعة أوريجون الذي سبق وأجرى دراسة محورها صورة الطفل آيلان. ومن أهم ما جاء فيها: سبب التأثير النفسي لهذه الصورة هو أن الطفل آيلان صغير جدا على أن يواجه الموت بهذه الطريقة. وكان يرتدي ثيابا أنيقة فمن الممكن أن يحصل ما حصل لأي طفل من أطفالنا. وكان يبحث عن بداية حياة جديدة مع عائلته، وكان قريبا جدا من تحقيق حلمه، بالإضافة إلى أن وجه الطفل عندما التقطت هذه الصورة لم يكن واضحا، فيمكنك تخيل أي شخص تعرفه مكانه.
وعن مدى التأثر العاطفي الذي استحوذت علية هذه الصورة قال سولفيك:
“لم يكن هناك اهتمام كبير بالأزمة السورية من قبل مثل ما حدث بعد انتشار الصورة، حيث بحثنا في نتائج بحث جوجل والعديد من محركات البحث الأخرى لنرى مدى اهتمام وبحث الناس عن القضية السورية، فكان هناك أعداد قليلة جدا مقارنة بأعداد الناس الذين بحثوا عن هذه القضية بعد انتشار الصورة.
وبحثنا كذلك في تبرعات الصليب الأحمر السويدي الذي أنشأ صندوقا مخصصا لمساعدة اللاجئين السوريين، مما يشير إلى أن الصورة لم تستحوذ على عواطف الناس فحسب، بل جعلتهم يهتمون بالقضية ودفعتهم للتبرع والاهتمام لما يحصل في سوريا”
تعاطف قصير المدى
ويشير إلى أن تأثير مثل هذه الصور يكون فوريا وسريعا لكنه بالمقابل يكون محدودا وقصير الأمد ويدلل على ذلك بالأرقام من خلال دراسته التي قام بها : “الاهتمام الذي حظيت به الصورة كان سريعا، لكنه وللأسف قصير الأمد، حيث بلغت التبرعات التي تلقاها الصليب الأحمر السويدي من أجل الضحايا السوريين بعد انتشار الصورة نحو 214.300 دولار أمريكي، أي أكثر بنسبة 55% مقارنة بالأسبوع الذي سبقه، حيث لم تتجاوز 3850 دولارا.، ولكن بحلول الأسبوع الثاني ( بعد انتشار الصورة ) بدأت التبرعات تقلّ ووصلت إلى 45.400 دولار أمريكي، ثم إلى 6500 دولار أمريكي بعد مرور ستة أسابيع”.
في المجمل فإن مثل هذه الصور المؤثرة تساعد على استفزاز مشاعر الناس أكثر، وتبين الأبحاث مدى تجاوب الناس معها، إضافة إلى أن استثمار هذا التعاطف يساعد جدا في تجاوب الناس مع مثل هذه الأزمات. ووفقا لهذا المعنى فإن الطفل آيلان أوضح للعالم ما يواجهه كل ضحية من ضحايا الحروب، وصورة جثته فتحت عيون العالم على الأزمة السورية واستحوذت على جميع عواطفهم وهذا هو الجيد في الأمر.
انتقادات أخلاقية
لكن رغم أهمية الصور الإنسانية التي تحولت لإيقونات ورموز مؤثّرة إلا أن تثير أحيانا تساؤلات أخلاقية حول ظروف التقاطها وعدم مساعدة أصحابها وهم في أوج الحاجة.
ومن هذه الأمثلة ما تعرض له المصور كوين كارتر الذي التقط صورة الطفل الإفريقي الذي هدّته المجاعة قرب النسر من انتقادات، فرغم الشهرة التي حظيت بها الصورة وجائزة “بوليتزر” الشهيرة التي نالها صاحب الصورة، إلا أن كوين اتهم ذلك بأنه كان يفكر بالقيام بواجبه المهني ونيل الشهرة وجني الأرباح فقط دون أن يفكر بإنقاذ الطفل. وعندما كان يسأل هل أقدم على فعل شيء لإنقاذه؟ لم يكن كوين يملك جوابا للرد على هؤلاء، بل اكتفى بالقول بأنه لم يكن في ظروف تساعده على إغاثة هذا الطفل ومئات الأطفال أمثاله، وأن العمل الوحيد الذي كان يستطيع القيام به كان التصوير.
وقد أقدم كوين على الانتحار في صيف عام 1994 بعد 16 شهرا من التقاط تلك الصورة التاريخية، وكتب في رسالة حررها قبل موته بأنه كان كئيبا وخائبا، وأن ذهنه كان مليئا بالصور والمشاهد الحية عن العنف والآلام والقتل والبيوت المدمرة والأطفال الجائعين.
المقال منشور في العدد 24 من مجلة غراس
يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة