تمكين المنظمات المحلية: دروس من جائحة كوفيد 19

2021-08-03

دأبت المنظمات الدولية منذ عقود أن تهرع بالنجدة والإغاثة إلى المناطق المنكوبة بالنزاعات والحروب والكوارث كالفيضانات او الحرائق والزلازل في أسرع وقت تحمل معها المساعدات والمعونات الإغاثية الطارئة، وبمجرد أن تنتهي مدة الإغاثة الطارئة يغادر العديد من تلك المنظمات الدولية سواءا تلك التابعة للأمم المتحدة او غير الحكومية دون ان تترك وراءها ما يسمن من جوع أو يدرأ الخطر القادم ، وهكذا دواليك ، تتكرر المشكلة ، وتتكرر المعالجة أو الاستجابة تقريباً بنفس الأسلوب، و عندما تغادر المنظمات الدولية مواقعها هي مغادرة كلية بكافة الخبرات والقدرات ولن يتمكن المحليون اذا تكررت الكارثة أن يفعلوا شئ سوي انتظار الرحمة من الخالق والمعونة من الخلق، إنه نفس الفيلم المأساوي نشاهده مرة بعد أخرى لعقود وتذهب نداءات المنظمات المحلية لبناء قدراتها كي تتصدى للكوارث والجوائح بنفسها …..أدراج الرياح و لا حياة لمن تنادي.

حملت على عاتقي كغيري من بعض الخبراء الذين ينتمون لجنوب الكرة الأرضية ضمن فريق الخبراء الدوليين أثناء مشاورات القمة الإنسانية العالمية خلال الفترة من مطلع عام 2014م من أجل عقد القمة الإنسانية العالمية الأولي من نوعها لمواجهة التحديات الإنسانية المتزايدة وللتفكير واستشراف مستقبل العمل الإنساني بل والمنظومة الإنسانية العالمية، واستمرت المشاورات العالمية حتى عام 2016م حيث عقدت القمة في اسطنبول في تركيا في 23-24 مايو 2016م ، و كان من القضايا التي شغلت ذهني : قضية تمكين المحليين  Localization  ، وذلك بهدف الدعوة والمناصرة لمسألة تمكين المحليين و كان من المتوقع عبر هذه المناصرة أن نشهد تغييرا في السياسات الإنسانية العالمية وبخاصة لدى كبار المانحين والمنظمات الدولية في قضيتين :

  • بناء القدرات المحلية لمواجهة التحديات الإنسانية المحلية Local Capacity Building وفق أفضل الممارسات والتطبيقات العالمية 
  • تخصيص نسبة معقولة من تمويلات المانحين للمحليين، حيث لم تستفد المنظمات المحلية حينها سوى من نسبة ضيئلة لا تتجاوز 2% من اجمالي المساعدات المخصصة للكوارث.    

ومن حسن الطالع أن القمة الإنسانية العالمية قد وفرت زخماً للتفكير والمراجعة و حملت بعض التفاؤل للمنظمات المحلية من جنوب الكرة الأرضية من خلال مبادرتين هما :

الصفقة الكبرى Grand Bargain

لقد كان من أبرز التعهدات فيما يتعلق بالتمويل الإنساني في إطار الرغبة في ” الاستثمار في الإنسانية” حيث أطلقت مبادرة مهمة بعنوان : الصفقة الكبرى Grand Bargain حيث اقترح 51 من ممثلي الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية  التزاماً لرفع كفاءة تمويل المساعدات الطارئة وتطويرها في ظل فجوة تزايد الاحتياجات الإنسانية وحجم الاستجابة الراهنة في العديد من الأزمات حول العالم، ويهدف اتفاق الصفقة الكبرى إلى ضرورة اجراء اصلاحات اقتصادية تمكن من توفير مليار دولار في خلال خمس سنوات في ظل تراجع الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة و تفاقم الأزمات والكوارث الطبيعية والنزاعات في ظل امتداد وتطاول أزمات إنسانية تجاوزت العقود مثل القضية الفلسطينية وقضايا اللاجئين في العديد من الدول ، وأن المطالبة بتوفير السيولة المالية الكافية وبشكل فعال مطلب ملح مع ضرورة إصلاح أجهزة تنفيذ المشاريع والبرامج الإنسانية لكي تكون أكثر فعالية بعيداً عن البيروقراطية القاتلة والتأكيد على الشفافية وخفض تكاليف عمليات التشغيل الباهظة لبعض برامج المنظمات الدولية ،

مبادرة شبكة NEAR

مثلت شبكة NEAR بمثابة القوة الدافعة لتتويج الضغط المتواصل لتحظى المنظمات المحلية في جنوب الكرة الأرضية بنسبة 25% من التمويل الإنساني المخصص للاستجابة الإنسانية بحلول عام 2020م وهي نسبة طموحة للغاية، إذا لم تتجاوز النسبة المخصصة لتنفيذ المشاريع الانسانية عبر منظمات الجنوب   2%  من إجمالي المخصصات الإنسانية مما يوضح جلياً أن المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة لا تنفذ سوى عبر شركائها من المنظمات غير الحكومية القادمة من الشمال، كما أنها عندما تغادر بعد انتهاء البرامج والمشاريع الإنسانية لا تترك وراءها الخبرات والتجارب مما يؤدي إلى استمرار الفجوات في القدرات والطاقات التنفيذية بين منظمات الشمال والجنوب قضية دون معالجة عبر عقود طويلة ، ومن شأن أن تساهم شبكة NEAR  في احداث تحول في مجتمعات المستفيدين والمتضررين من مجرد مستفيدين إلى شركاء مؤثرين في توجيه الحصة التمويلية والارتقاء بمستويات التفاعل وضمان المشاركة المباشرة  للمنظمات والمجتمعات والفاعلين المحليين مع مجتمعاتهم على الأرض في كافة مراحل وعمليات ومواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية.. 

لقد ظهر جلياً أهمية الشفافية في التقارير الإنسانية والعمل على مواءمة تلك التقارير مع الواقع وكشف الثغرات والتقليل منها والتخلص من الممارسات التي تحد من الافصاح التام والشامل للمعلومات والبيانات المالية للنفقات على برامج ومشاريع القطاع الإنساني.    

من دروس كوفيد 19

عندما حل وباء كوفيد 19 على دول العالم، لم تتمكن هذه المرة المنظمات الدولية وربما ولأول مرة منذ عقود طويلة من القيام بشئ نظراً لحالة الإعلاق و حظر السفر و برزت أهمية أن تعتمد كل دولة ومجتمع ومنظومة على امكاناتها الذاتية والاعتماد على قدراتها وتحريك مواردها الذاتية، وظهر بوضوح خطورة الاعتماد على الآخرين و لعل هذا من الدروس البالغة الأهمية من هذه الجائحة على صعيد سياسات التنمية الدولية: كما برزت أهمية الاستثمار في المؤسسات المحلية وأنه أمر بالغ الأهمية لبناء المرونة وقدرات الصمود في مواجهة الأزمات، لقد قامت منظمات الإغاثة الدولية بإجلاء موظفيها منذ بداية الوباء، لقد تُركت المنظمات المحلية وحيدة في الميدان لتقوم بملء الفجوات والثغرات بل أن دراسة استقصائية لما يقرب من 600 متخصص في مجال التنمية الدولية قد خلصت الى أن 51٪ من العاملين في مجال الإغاثة أشاروا إلى زيادة الاعتماد على الجهات الفاعلة المحلية لتنفيذ مشاريعهم، وهو اعتماد تطور مؤخرا نتيجة تداعيات الوباء و دخلت العديد من المنظمات المحلية بما في ذلك تلك التي تركز على مجال تغير المناخ، وتحركت للاستجابة للوباء، من خلال العمل بشكل مباشر  مع منظمات محلية أخرى قد لا يظهر بينها علاقات قطاعية واضحة، وأصبح الجميع يدركون أن التعرض لتهديد واحد يعني تعرض الجميع لكافة التهديدات. فعلى سبيل المثال، المنظمات ذات الخبرة في مواجهة تغير المناخ – بالإضافة إلى القضايا المترابطة به مثل انعدام الأمن الغذائي والجفاف والمياه والصحة، حاولت استعمال مقاربات إدارة الأزمات و الاستراتيجيات والوسائل المرنة في الاستجابة لأزمة جائحة كوفيد 19 ، لقد تعلمت المنظمات المحلية من الوباء بأنه يمكن بالتركيز على القليل أن تقوم بفعل الكثير في ظل شح الموارد والامكانات.  

تشكل المنظمات المحلية عنصراً جوهرياً في مواجهة الكوارث فليس هناك غيرها عند حدوث الكارثة أو حالات الطوارئ وليس من الحكمة اهمالها واغفال دورها الحاسم في بناء نظم التكيف والصمود لمواجهة كافة التحديات ويتطلب الأمر ايلاء الاهتمام ببناء قدراتها، ولا يمكن الاستهانة بمخزون الخبرات المحلية التي لديها ومعرفتها الواسعة بالثقافة المحلية ومراعاتها لكافة الحساسيات، ولعل درس كوفيد 19 يساهم في التذكير مجدداً بأهميتها وأدوارها.     


الدكتور عبد الفتاح محمد: – خبير وباحث أول بمركز دراسات النزاع والعمل الإنساني – معهد الدوحة للدراسات العليا

ملاحظة: يعبر المقال عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر قطر الخيرية.

المقال منشور في العدد 24 من مجلة غراس

يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق