توطين المساعدة .. بين الطموح والواقع

عبد ربي بن صحراء
2022-07-03

دخل مفهوم توطين المساعدة ساحة النقاش الدولي خلال العقدين الأخيرين باعتباره واحدا من أهم المواضيع الجدالية ذات الصلة بنظام التضامن الدولي. بشكل عام، يمكن القول أن هذا النقاش طُرح تحت ثلاثة عناوين رئيسة كبرى: توطين المساعدة، وتوطين الاستجابة الإنسانية، وتوطين التنمية أو أهداف التنمية المستدامة. والقاسم المشترك بين هذه العناوين الكبيرة هو “التوطين” (Localization).

بعيدا عن أي اختزال مخل وأيضا عن أي تفاصيل قد لا يتسع لها المقام في هذا المقال المختصر، يمكن القول إن التوطين ضمن سياقات المساعدة عموما أو الاستجابة الإنسانية أو التنمية تحديدا هو مفهوم يتعلق بالدرجة الأولى بالأدوار التي ينبغي للفاعل الوطني الاضطلاع بها ومدى تمكنه من الأخذ بزمام المبادرة في كل ما يتعلق بتدبير الاستجابة الإنسانية والنهوض بالتنمية الشاملة للبلاد بالاستفادة من نظام التضامن الدولي. جوهر هذا التعريف يتضمن بعدين مهمين، حيث يرتبط البعد الأول بالاعتراف الدولي بدور الفاعل الوطني، أما البعد الثاني فيتعلق بتمكين الفاعل الوطني من أداء هذا الدور. التمييز بين هذين البعدين مهم جدا لضرورة أخذ بعين الاعتبار إشكالية التعهدات والوفاء بها في الممارسة الدولية.

مقاربتنا في تناول موضوع التوطين في أبعاده المتنوعة، من خلال هذا المقال المختصر، تعتمد على التعريف بنظام التضامن الدولي باعتباره الإطار الكلي الناظم، وشرح السياق العام للنقاش حول هذا توطين المساعدة، وتحديد الأبعاد الرئيسة لطرح مسألة التوطين، واستعراض الإطار العام أو بيئة تناول مسألة التوطين، ووصف الواقع الحالي لتوطين المساعدة، وكشف دعائم ومعيقات التوطين واستشراف اتجاهاته المستقبلية.

نظام التضامن الدولي

يعتبر التضامن أحد عناصر النظام الدولي الذي أفرزه واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكما يدل على ذلك اسمه، فقد صمم هذا النظام ليؤدي وظيفة أساسية تتعلق بتقديم المساعدة الإنمائية والإنسانية إلى الدول المحتاجة تجسيدا لروح التضامن بين الدول بما يخدم الأمن والاستقرار العالميين وذلك من منطلق مثالي يٌعتبر بموجبه العالم مجتمعا دوليا بل أسرة دولية مما يضفي على التضامن في هذه الحالة معنى أقرب إلى التضامن الاجتماعي أو التضامن بين أفراد الأسرة الواحدة.

وبعيدا عن تعقيدات تصنيفات الدول، ينقسم العالم إلى مجموعتين كبيرتين؛ مجموعة غنية وأخرى فقيرة. تتألف المجموعة الغنية، أو ما يُعرف بدول الشمال أو الدول المتقدمة أو الدول الصناعية، من الدول الغربية خصوصا التي تتوفر على الموارد المالية والخبرة الفنية. وبموجب وظيفتها التضامنية، تُعرَف هذه المجموعة بالدول المانحة، وتنضم جميعها لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD باعتبارها أكبر نادي للمانحين.

أما المجموعة الثانية فهي مجموع الدول الفقيرة التي تٌعرَف أيضا بالدول المتخلفة أو النامية أو دول الجنوب. حيث تعاني هذه الدول من اختلالات بنيوية على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، تجعلها هذه غير قادرة على تحقيق التنمية الشاملة وعلى الاستفادة المثلى من ثرواتها الطبيعية من أجل تحقيق هذه التنمية.

وبمنطق التضامن الدولي، فالمجموعة الغنية هي المجموعة المانحة أما المجموعة الفقيرة فهي المجموعة المستفيدة. حيث بنيت العلاقة بين هذين الطرفين، منذ تأسيسها في البداية، وفق منطق اليد العليا واليد السفلى.. فاليد العليا تُعبر عن الدول المانحة التي تتوفر على الموارد المالية والقدرات الفنية وبالتالي ترى هذه الدول أنه من حقها إدارة المساعدة بالطريقة التي تراها مناسبة سواء من حيث تحديد الحاجة أو من حيث طرق تلبيتها.

السياقات التاريخية لتبلور مفهومي التضامن الدولي والمساعدة الدولية

كما يمكن التمييز بين مرحلتين مهمتين طبعتا منظومة التضمان الدولي، مرحلة الحرب الباردة التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى سقوط المعسكر الشرقي نهاية الثمانينيات، ومرحلة ما بعد الحرب الباردة التي جاءت مباشرة بعد انهيار المعسكر الشرقي وتمتد إلى يومنا هذا. لعل أهم ما ميز نظام التضامن الدولي بشكل عام، والمساعدات الدولية بشكل خاص، خلال المرحلة الأولى استخدامها كآلية لاستقطاب الحلفاء في إطار القطبية الثنائية التي تميز بها العالم آنذاك، في هذا الإطار يمكن فهم التراجع النسبي للمساعدات الدولية بعد هذه المرحلة مباشرة. أما المرحلة الثانية، فقد تميزت أساسا بالمبادرات الإنمائية والإنسانية الدولية التي قادتها الأمم المتحدة من قبيل خطط التنمية البشرية واستراتيجيات النمو الاقتصادي ومحاربة الفقر التي أطلقت اعتبارا من سنة 1990، وأهداف التنمية للألفية (MDGs) وإطار عمل هيوكو للحد من الكوارث المصاحب لها 2000-2015، وأهداف التنمية المستدامة (SDGs) وإطار عمل سنداي للحد من الكوارث المصاحب لها أيضا 2016-2030. إضافة للاتفاقيات الدولية ذات الصلة، شكلت هذه المبادرات المرجع المهم للتضامن الدولي من حيث المجالات والأولويات والأهداف والمقاربات، في حين شكلت آلياته التظيمية الرئيسة كل من الأمم المتحدة بأجهزتها ووكالاتها المتخصصة المختلفة، ووكالات التنمية الدولية التابعة للدول المانحة، والمنظمات غير الحكومية الدولية بما في ذلك منظومة الهلال والصليب الأحمر.

ظلت طبيعة العلاقة بين الدول المانحة والدول المستفيدة، أو الفاعلين الدوليين والفاعلين المحليين، محل نقاش دائم ضمن هذه المنظومة في بعديها المرتبطين بالاعتراف بدور الفاعل الوطني وأيضا بمدى إرادة تمكين هذا الفاعل من أداء هذا الدور. وإذا كان الاعتراف بدور الفاعل الوطني محل إجماع وفق ما أكدته مجموعة من الاتفاقيات والالتزامات والمبادرات التي سنتطرق إليها لاحقا فإن الإشكالية الرئيسة تتمثل في الشق الثاني أي إرادة تمكين الفاعل الوطني من أجل أداء هذه الأدوار المعترف بها.

في إطار التغيرات المستمرة التي تطال المشهد الدولي خصوصا في ما يتعلق بالعلاقة بين الشمال والجنوب، أثير جدل كبير حول مسألة المساعدات الخارجية وتحديدا حول مدى الحاجة لتوطين القدرات الوطنية لإدارة هذه المساعدات في مختلف أبعادها. وبالنظر للمسارات التي أخذها هذا النقاش، فإنه يمكن النظر إليه من خلال زاويتين رئيستين، تتعلق الزاوية الأولى بالتوجه نحو مراجعة علاقة الشمال بالجنوب بحثا عن نوع من التوازن في هذه العلاقة من خلال منح الفاعلين الوطنيين، الحكوميين وغير الحكوميين، مزيدا من الأدوار في إدارة المساعدة. وقد زاد من حدة هذا النقاش التحاق مجموعة من الدول غير الغربية بقائمة المانحين، وهي الدول التي تٌصنف بما يعرف بالاقتصادات الصاعدة كدول BRICS تحديدا، حيث تحمل هذه الدول تصورات ومقاربات جديدة للمساعدة وللعلاقة بين الدول المانحة والدول المستفيدة. قاد كل هذا إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بإزالة الطابع الغربي على المساعدة De-westernization الذي تميزت به لعقود طويلة، أي منذ عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما الزاوية الثانية فترتبط بجهود البحث نحو ضمان كفاءة المساعدة من خلال تقليص نفقات العمليات، حيث تكلف عمليات الوساطة المالية مبالغ كبيرة يحرم منها المستفيد الأخير. وتمثل المنظمات غير الحكومية الدولية، ضمن آليات المساعدات الحالية، أهم وسيط مالي مما يجعها في قلب النقاش الدائر حول مسألة التوطين لتأثيره المباشر على مستقبل أساليب عملها ونماذج تدخلاتها الخارجية بشكل عام. 

سيرورة النقاش حول توطين المساعدة

أخذ النقاش حول التوطين مسارا طويلا شكلت معالمه الكبرى عدة محطات رئيسة، وشاركت في هذا النقاش عدة جهات وازنة وفاعلة في موضوع المساعدة منها جهات حكومية/سياسية، وأخرى بحثية/أكاديمية، إضافة لجهات غير حكومية كالمنظمات غير الحكومية الدولية وشبكاتها تحديدا. من بين أهم هذ الجهات التي أثرت النقاش في هذا الموضوع الشائك، للمثال لا الحصر، ODI، ALNAP، UNOCHA، Global Taskforce of Local and Regional Governments، Humanitarian Policy Group، ICVA، OECD-DAC وآخرون.

من دون شك، شكل إعلان باريس لسنة 2005 بخصوص فعالية المساعدة المحطة التاريخية المهمة التي دشنت رسميا لنقاش دولي جاد ومسؤول حول مسألة التوطين في أبعاده الإنمائية، فقد أكد هذا الإعلان من خلال الالتزامات الخمسة التي خرج بها على ضرورة ضمان الشروط اللازمة كي يتمكن البلد المستفيد من زمام المبادرة بخصوص المساعدة التي يستفيد منها.

وقد حدد الإعلان أن من بين هذه الشروط، للمثال لا الحصر، المشاركة الفعالة للدول المستفيدة في مختلف مراحل إدارة المساعدة، وبناء القدرات الوطنية، والاعتماد على الأنظمة الوطنية، وتحقيق مبدأ المساءلة المشتركة.

وإذا كان إعلان باريس محطة انطلاق فإنه يمكن اعتبار القمة الإنسانية العالمية لسنة 2016 محطة بارزة في نهايات هذا المسار، إذا قدر أن تكون له نهاية، لِما أثارته هذه التظاهرة الدولية من قضايا تتعلق بتوطين المساعدة ولِما خرجت به من توصيات من أهمها تعزيز الأنظمة الوطنية والمحلية وليس استبدالها. وقد أعقب هذه القمة وكنتيجة مباشرة لها إطلاق مبادرة دولية تحت عنوان (Grand Bargain) أو “الصفقة الكبرى” من أجل تطوير آليات للتمويل لفائدة الفاعلين على المستوى الوطني/المحلي. شهد المسار ما بين هذين الحدثين المهمين محطات أخرى كانت لها أيضا آثار مهمة في مستقبل توجهات توطين المساعدة كما هو الحال بالنسبة ل 1.مبادرة (Global Humanitarian Platform, GHP) لسنة 2007 التي دعت لآلية دولية للمساعدة الإنسانية باعتمادها لمجموعة من مبادئ الشراكة التي تعتبر القدرات المحلية المرتكز الأساسي الذي ينبغي الاعتماد عليه في إدارة المساعدة مع ما يتطلبه ذلك من جهود لتعزيزه وتقويته. 2. مبادرة مبادئ استنبول لفعالية وتنمية منظمات المجتمع المدني لسنة 2009، حيث نصت هذه المبادرة على ضرورة تحقيق شراكات عادلة ومتضامنة. و3. مبادرة معهد (Overseas Development Institute, ODI) لسنة 2012 التي أطلقت أول تنزيل عملي لصيغة توطين المساعدة. 4. مبادرة مجموعة من المنظمات غير الحكومية الدولية والوطنية التي بموجبها تم إطلاق ما يعرف ب Chart for Change أو “الميثاق من أجل التغيير” والتي تدعو لإحدات تغيير حقيقي وعملي في نظام المساعدات الإنسانية يضمن استجابة إنسانية محلية أكثر.

المقال منشور في العدد 27 من مجلة غراس

يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة

عبد ربي بن صحراء
خبير لدى قطر الخيرية
يعبر المقال عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر قطر الخيرية.

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق