الأثر.. والفراغ (قصة قصيرة)

2023-09-27

تأليف: نوف مسعود المريخي

القصة الحائزة على المركز الأول

المرحلة الجامعية ـ بنات

النسخة الخامسة لبرنامج كتاب المستقبل


أنفاسٌ لاهثة تتغلغل بعمق وتخرج متقطِّعة، على الرغم من جسده الساكن، عينان مفتوحتان باتساع، تنظران من خلال غطاء ممزَّق ومهترئ لكنهما لا تألفان سوى الظلام. تمالك نفسه واستوعب همهمات الامتعاض التي بدأت تنمو وتتكاثر من حوله، تمتمات غير مفهومه، لكنّه يعلم أنه المتسبب بها. سمع صوتا قريبا منه: هي! عين زجاجية، ألا يزال ذلك الطيف يلاحقك؟ ألا يوجد شخص آخر تلاحقه؟ وبضحكة ساخرة استكمل حديثه، وقال له: يبدو أنها تستمتع بالنظر إلى عينيك الزجاجيتين لأنهما لا تبكيان خوفاً.. لا عليك، ستعود للنوم قريباً. خمس سنوات وهو يعاني من طيف امرأة مجهولة يزوره كل ليلة، ويقضّ مضجعه بكلمة ليست مفهومة، ولكن هذه الليلة سكنت أحلامه أطول من المعتاد، ولأول مرة، منذ خمس سنوات تمتمت بكلمة مفهومة، ظل يتردد صداها في أعماقه إلى أن غلبه النوم.

طيف غريب

حين تشرق الشمس فهي تبشّر بيوم جديد، يحمل في طياته المتاهات التي يرسمها القدر. فكلٌ منّا لديه متاهته الخاصة، قد يعرف مخرجها بدون أدنى مجهود، وقد تفضي إلى طريق لا تُعرَف نهايته. وماذا لو ظهر منعطف جديد يحمل في ثناياه الكثير من المفاجآت غير المتوقعة؟ وعلى الرغم من ذلك فإن شروق الشمس حين يسقط على بعض الناس قد يكون لونه حيادي كما هو الحال معه، على الرغم من لونه الذهبي الصارخ الذي سقط على غطاء العين الزجاجية وتسلّل بين الفراغات لترسم خطوطا على وجهه وتوقظه برقّة وكأنّها تعلم أنه نال كفايته من الإزعاج في الليلة الماضية، وبأنه سيستمع إلى موجة امتعاض من حوله يمتد أثرها طوال اليوم من تنمر، وتوبيخ، وتساؤلات.. وكأنّه يتعمد استدعاء ذلك الطيف الغريب.

 استعدّ ليومه الدراسي، سار في متاهته المعتادة وحيدا كالعادة على الرغم من امتلاء الممرّات بصبية دار الرعاية إلى أن وصل إلى مقعده، لم يتفاعل قطّ في أيّ فصل دراسي، وعيناه لم يكن بريقهما افتتانا بمعلومة ما، أو فضولا تجاه أي حدث في الحياة، فمنذ أن أحضر إلى دار الرعاية كان الحياد ولون عينيه متشابهين، وكانت الدموع قد تجمّدت في مقتليه. ورغم كل الظروف لم ينجح أحد بكسر هذا الحاجز، وكأنها كانت تحول بينه وبين الحياة والمشاعر.

ظلّت هذه الكلمة ملازمة له لأسبوع أو أكثر، وفي آخر فصل في الأسبوع أراد أستاذ اللغة العربية أن يقرأ فقرة من رواية ما، وكعادته كان ذو العين الزجاجية لا يتفاعل، وفي أثناء القراءة استرعى انتباهه كلمة كانت تستحوذ على تفكيره طوال تلك الأيام، فانتفض من مقعده واقفا وقال: توقف! الكلمة.. حلّ السكون في الفصل ونظرات مندهشة ومتفحِّصة تنظر إليه. وللحظة ما أحسّ بأنه يحترق خجلا من تصرفه المفاجئ غير المدروس، ولكنّه استجمع قواه وسأل: ما معنى الأثر؟ نظر إليه الأستاذ من وراء نظارته واستكمل قراءته متجاهلا، غادر فصله غاضبا بسبب الإحباط والخيبة.

ذو العين الزجاجية

في اليوم التالي واجه ذو العين الزجاجية أثناء عبوره متاهته موجات التنمر والامتعاض بسبب كوابيسه اليومية، بالإضافة إلى تعليقاتهم على ما حدث أمس، لكن هدفه كان واحدا، وهو الذي جعله يتجاهل هذه الموجة، وتجاوز الاستياء الذي كان يشعر به، حضر مبكرا للفصل، ووجد الأستاذ ينظر إليه متفحصِّا وهو يعلم أنه يريد أن يعرف معنى هذه الكلمة. اعتذر عما بدر منه في اليوم السابق، اقترب منه الأستاذ وسلّمه الكتاب الذي كان يقرأ منه، انسحب إلى غرفته واحتضن غطاءه، فوجد تفسيرا لما تعنيه هذه الكلمة، ومما زاد حيرته أن يذكر الطيف هذه الكلمة؟ الأثر؟ أثر مَن؟ وكيف يكون؟ وبعدها، كان يبحث عن كلّ أنواع الأثر، أثر تنمّره على الأضعف منه وتمرده على الأقوى منه، أثر طاعته ومعصيته للأوامر، معارك كثيرة لاستكشاف هذه الكلمة.

لم يحصل على ما يرضيه ويشبع فضوله، صراع بعد صراع، إلى أن كاد أن يستسلم، ولم يكن الطيف فقط هو ما كان يزعجه كل ليلة، بل الفراغ الذي يتخلل شعره، والفراغات بين أصابعه رغم أنه لم يلمسها أحد، والحاجة إلى من يربِّت على كتفه، كانت نواقص قد يستشعر دفئها لو توفرت.

في إحدى الليالي الشتوية الباردة أتى رجل كهل للمطالبة به، لم يهتم من يكون، وإلى أين سيذهب؟ وماذا سيكون مصيره؟ لم يشعر بشيء حين فارق ذلك المكان، لقد كان متمسكا بغطائه الممزق، وكأنه الزاد لمرحلته القادمة.


الأثر.. والفراغ-تأليف: نوف مسعود المريخي
الأثر.. والفراغ-تأليف: نوف مسعود المريخي

الصندوق القديم

مرت الأيام المحايدة الجديدة ببطء إلى أن أتى الكهل يوما بصندوق قديم ورماه على سريره وخرج. لم يهتم ونام وهو يعلم بأنه سيلتقي بطيفها، وعلى الوتيرة نفسها، عين زجاجية، أيام محايدة، المتاهة نفسها، الطيف نفسه، وفجأة توقف الطيف عن زيارته، ولم يعد يستطيع النوم، وتساءل: لماذا لستُ سعيدا؟  لقد توقفت عن مضايقتي، لم أعد ألهث، لم أعد أجرب أنواع الأثر، لماذا أشعر أنّ ثمة شيء ينقصني، وفي غمرة تفكيره وقعت عيناه على الصندوق المرمي منذ أيام، اقترب منه بخطوات حذِرة، ظل يتفحصه إلى أن قرر فتحه، ولكنه وجده مقفلا بإحكام، وباءت محاولاته بالفشل. وبالخطوات نفسها ذهب إلى الرجل الكهل وهو يحمل الصندوق، نظر إليه الكهل قائلا: وأخيراً! مشيحا بنظراته قائلا: هل تستطيع مساعدتي؟ ومن دون تردد أخرج من جيبه مفتاحا قديماً، وغادر فورا إلى غرفته موصدا الباب بحذر، ظل واقفا لفترة، لا يعلم ما يحتويه هذا الصندوق، وهل هو متاهته الجديدة، وهل ستكون هناك أياما محايدة جديدة ستغيّر مسار حياته؟ استجمع قواه وأخذ نفسا عميقا   وفتح الصندوق.. وجد صورة لطفل صغير يشبهه، تمسكه يد امرأة.  ولأول مرة ينقبض صدره ويتأثّر، لماذا هذه الأثر القوي ليديها؟ وجد ورقة كبيرة مطوية مكتوب على طرفها “الأثر”.. وقعت الورقة من يده خوفاً واندهاشاً وحيرة. ولأول مره شعر بأن فراغات قلبه مُلئت بمشاعر متناقضة، علم في قرارة نفسه بأنها حلقة الوصل بين الفراغ الموجود في حياته وطيفه الذي كان يزوره كل ليلة، استجمع قواه وفتحها، وما زاد حيرته الرسومات التي لم يجد لها تفسيرا، نقاط وآثار يد لطفل صغير، وأصابع أقدام، ووجد سجادة صلاة صغيرة، ظلّ في حيرة من أمره إلى أن تسلّلت إلى غرفته أشعة الشمس.

اللوحة

صباحا، جلس على طاولة الإفطار مع الكهل الذي يرفض أن يناديه “جدي”. كان لقاءً يوميًا بدون كلمات، ولكن حين همّ بالخروج استوقفه جده، وقال: الصلاة، نظر ذو العين الزجاجية متسائلا، فكرر بنفاذ صبر: اللوحة التي لديك هي عن أثر الصلاة، كنت أحاول أن أحبب ابنتي ـ هي نفسها والدتك ـ بالصلاة، وكانت هذه طريقتي. عاد وجلس ببطء بجوار جده وعيناه أكثر لمعانا وكأنها في هذه المرة تريد أن تنهزم أوتنهار. استأنف الجد قائلا: لديّ نفس اللوحة لكنها تخص ابنتي، وحيدتي، في المرة الأولى التي قررت تعليمها الصلاة وأثرها، ابتكرتُ هذه الطريقة حتى تكون رفيقة مسارها في هذه الحياة، ولكنّ القدر حال بيني وبينها مثلما حال بينك وبينها.

تساءل ذو العين الزجاجية: والدتي! أمي؟! كيف طويتها بين ثنايا ذاكرتي ولم يطرق قلبي باب ذكراها قبل اليوم؟ لِمَ لَمْ أتساءل يوما كيف هو شكلها؟ وماهي طباعها؟ وكيف يبدو صوتها؟

الصلاة وأثرها في حياته، بدأت تقلل من حيادية الأيام والأشياء من حوله. مرافقة جده للصلاة ونظرته الجميلة للحياة هي ما جعلته ينظر للحياة من خلال عينيه، أصبح ورق الشجر أكثر اخضرارا، والسماء أكثر زرقة. أخبره جده أن مواضع السجود يجب أن يسخّرها للخير، وأن يسخّر نفسه لمنفعة ما دامت قدماه تحملانه، وأن السجود يجعله عند الله أقرب وبها تتحقق أمنياته. ومع الأيام أصبح أكثر امتنانا للون الشمس، أكثر تقديرا للحياة، كان يبني جسرا علّه يصل بينه وبين أمه، ورغم حضور الأثر أصبحت وطأة الفراغ أكثر حدة، ما زال يشعر بالفراغ الذي يتخلل شعره وأصابعه، ما زال يريد من يربت على كتفه.

مرت خمس سنوات أخرى وأصبح في الخامسة عشرة من عمره، ولكن عيناه على حالهما، كل من يراهما لا يجد لهما تفسيرا، لكن ما زال انعكاسها زجاجياً، ما زال متأرجحا بين الحياد والحياة، مسالما، لكن مشاعره تحارب الحياة، ممتنا، ولكنه بعيد كل البعد عن السعادة.


الأثر.. والفراغ-تأليف: نوف مسعود المريخي
الأثر.. والفراغ-تأليف: نوف مسعود المريخي

يوسف

في يوم مشمس استيقظ وهو يشعر أنه مغمور بشعور مبهج، ربما لأن طيف أمه حاضر وبقوة. في ذلك اليوم كان دائم السجود لله شكرا على كل النعم التي يستشعرها في يومه. في سجوده أحس بخطوات تتسلل إلى غرفته، لم يميز أنها ليست خطوات جده إلى أن اقتربت منه الخطوات تقطّعت أنفاسه، تفتحت عيناه باتساع، ضاعت تمتماته، امتدت يد إلى رأسه، وتخللت أصابع رقيقه خصلات شعره، ربتت اليد ذاتها على كتفه، وملأت الفراغات بين أصابعه كأنما اكتملت أحجية حياته، و انهارت عيناه واغرورقتا بالدموع، وناداه صوت رقيق عليه: يوسف، يوسفي الصغير، وحين رفع رأسه ورآها، عرفها وكأنه رآها أمس، لم يعرفا كم مضى على عناقهما معاً، ولكنه أخيرا نطق: لقد كنت أحلم بكِ منذ أن فارقتني، فأجابته باكية: لقد حلمت بك طوال حياتي، يوسفي الصغير. 

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق