تأليف: محمد عبد الله المرّي
القصة الفائزة بالمركز الثالث
المرحلة الثانوية ـ بنين
النسخة الرابعة لبرنامج كتّاب المستقبل
أبو صالح في العقد الخامس من عمره.. نحيف لا يحمل جسده شحما ولا لحما من شدة الشقاء الذي يتحمله طوال حياته.. فهو يخرج عقب صلاة الفجر ولا يعود إلا مع غروب الشمس.. حيث كان يقوم بجمع الخضروات من المزارع المجاورة، ونقلها إلى المدينة بسيارته القديمة.. مقابل أجرة كان يأخذها مناصفة من أصحاب المزارع وأصحاب المحلات التجارية.. والآن لم يعد قادرا على إصلاح سيارته المتهالكة ذات العشرين عاما.. فكلما توفر لديه مبلغ من المال أنفقه على إصلاحها ولا يبقى لأولاده سوى القليل.. ومع ذلك لا يستطيع الاستغناء عنها.. فهي رأس ماله.. ووظيفته.. ومصدر رزقه الوحيد.. مهنة ورثها عن أبيه واستمر فيها أبو صالح، لكنه لا يرغب في أن يعمل بها ولده صالح بعد أن ركب قطار التعليم.
عشرون عاما مضت.. كان خلالها سعيدا بما يحصل عليه من رزق.. ينفق على أولاده صالح وزينب ومريم.. كان معروفا بأمانته.. ومحبوبا من الجميع.. لا يبخل على أحد بجهده ووقته.. متعاونا مع الجميع في قريته وخارجها.. وهذا ما جعله معروفا لديهم.
الصدمة
وذات يوم تعطّلت سيارته كالعادة.. وظنّ أنّ أمرها بسيط.. وعندما استدعى إليها صديقه الميكانيكي عادل.. اكتشف أن سيارته لن تعود للحياة مرة أخرى.. وهذا ما كان يخشاه أبو صالح.. فقد حذره الميكانيكي كثيرا من قبل.. لقد أصبح المحرّك مُستهلَكا ولابد من وضع محرك كامل بدلا عنه، وهذا فوق طاقة أبي صالح.. فمن أين له ذلك؟
الصدمة هزّت كيانه.. فلم تحمله قدماه.. جلس وأسند ظهره إلى سيارته.. وأخذ يتحدث إليها كأنّها تفهم ما يقول.. يوجّه إليها اللوم والعتاب.. ويسألها كيف هانت عليها العِشرَة!
وكأنّه يجد الجواب في صدره.. ثمّ يقدّم لها احترامه ويلتمس لها العذر.. ويعود فيعترف بفضلها عليه بحزن وتحسر.. فمنذ عقدين من الزّمان وهي تلازمه.. لكن ماذا يفعل الآن؟ الأمر مقلق لأن أبا صالح ليس له مصدر دخل آخر.. وبهذا الحال سيصعب على أبي صالح توفير احتياجات بيته.
انصرف عادل الميكانيكي إلى عمله بعد أن فحص السيّارة.. وواسى صديقه.. ومضت ساعة من الزّمن وأبو صالح في مكانه.. يلصق ظهره بالسيارة كأنه لا يقوى على فراقها.. أو كأنّ الصدمة ذهبت بقوته.. ولكنّه تماسك قليلا.. وقام ليخبر أصحاب المزارع بالأمر الذي حلّ به حتى يتدبّروا أمرهم.
عكازان مكسوران
قطع أبو صالح الطريق ماشيا.. يفكر في أمر سيّارته.. وفي شؤون بيته.. حتى وصل إلى المزارع مُنَهَكا.. فقد كانت الطريق طويلة.. أنهى مهمته وأبلغ المزارعين بالأمر.. تأسّف الجميع لما حدث.. لكنّ أبا صالح لم يعد إلى البيت.. بل رجع مرة أخرى إلى سيارته.. وألقى نظرة أخرى عليها.. آملا أن تعود للحياة.. وأن تشعر بمدى حاجته إليها.. ولكن كيف يحدث ذلك؟ فالموتى لا يعودون للحياة.. وقد كانت كعكّازيه المكسورين.. لكن ما باليد حيلة كما يقولون.. طلب الرجل العوض من ربه.. ثم كشف غطاء المحرك.. وأخذ يقلب في أجزائها المهترئة.
وبعد ذلك أخرج أبو صالح من صندوق السيارة غطاء بلاستيكيا كبيرا كان يستخدمه في تغطية صناديق الخضروات في السابق.. وحاول أن يغطّي به مقدمة السيارة بشكل مُحكَم.. ثم عاد إلى البيت في وقت مبكر على غير عادته.
هرولت نحوه ابنته الصغرى مريم.. ابتسم أبوها في وجهها.. لكنها لاحظت أن أباها لا يحمل معه الحلوى التي يحضرها لها حينما يعود من العمل.. نادت مريم أمها التي كانت مشغولة في إعداد الطعام.. وقبل أن تتكلم أم صالح طلب منها بعض الماء.. وحينما كان يتناول كوب الماء دخلت ابنته الكبرى زينب وولده صالح عائدين من المدرسة.
سأل أبو صالح كم السّاعة؟ فأخبرته زينب أنها الواحدة والنصف.
حاول أبو صالح القيام لكنه لم يستطع.
اعتذار
سألته ابنته زينب.. ما الأمر يا أبي؟ لعلّه خير.. طمأنها أبوها.. ثم أعطاها أرقام أصحاب المحلات التجارية حتى تتصل بهم وتخبرهم بأن أباها يعتذر عن العمل.. فلن يستطيع نقل الخضروات بعد اليوم.
ذهبت زينب وأدت المهمة.. ثم قامت تساعد أمها في أعمال البيت.. وأعدت الشاي الذي يفضله أبوها.. ووفّرت أم صالح الأجواء المناسبة ليستريح زوجها.. هدأت الأمور قليلا.. وحالة من الصمت سادت البيت.
مضى على ذلك الأمر ثلاثة أيام.. وأبو صالح لا يخرج من بيته إلا ليلقي نظرة على سيارته، ثم يعود مسرعا إلى البيت.. بعد ذلك توعّك قليلا، ولم يعد قادرا على زيارة سيارته.. حتى اشتاق إليها.
الضيوف الثلاثة
وبعد أن قضى في فراش المرض قرابة أسبوع شعر أبو صالح بالعافية تدّب في جسده.. وكان يوم الجمعة.. فقام يتأهب للذهاب إلى المسجد.. وقامت زينب ترتِّب البيت البسيط.. وتنظِّف مدخل البيت من آثار ألعاب أختها الصغرى إيناس.. فإذا بثلاثة رجال غرباء عن القرية يسألون عن والدها.. على الفور أخبرت زينب والدتها بأمر الضّيوف الثلاثة.. فاستعد أبو صالح.. وقام يستقبل ضيوفه.. ولما تأمّل وجوههم علم أنّهم من أصحاب المحلات التجارية الذين كان ينقل إليهم الخضروات.. زاد أبو صالح في كلمات التّرحيب.. وأمر بإعداد الشاي لكنّهم أرجأوا ذلك حتى تنتهي صلاة الجمعة.. وخرجوا جميعا إلى المسجد وأبو صالح في دهشة من أمره.. يسأل نفسه.. ما الذّي جاء بهم إلي؟.. لعله خير يا رب.. وكان يخشى من عتابهم له.. فقد تخلّف عن توفير طلباتهم من الخضروات ولكن ليس بملكه.. وكان يفكر في الاستفسار عن سبب زيارتهم.. لكنه لم يسألهم عن ذلك.. فليس هذا من شيم العربي الأصيل.. وهم لم يخبروه شيئا على الإطلاق.. فقط اطمأنوا على صحته وأحواله.
تساؤلات بدون إجابة
انقضت الصلاة.. وانصرف النّاس إلى بيوتهم.. لكن الرجال الثلاثة لم يخرجوا من المسجد وظلوا في أماكنهم.. حتى فرغ إمام المسجد من الحديث مع جماعة من المصلين كانوا يناقشونه في مسألة ما.. كلّ هذا وأبو صالح يقف ثم يجلس.. ويترقب قيام الضيوف.. ولا يدري هل يستعجل الرجال الغرباء في الخروج أم ينتظرهم حتى يقرروا ذلك بأنفسهم؟.. طال الأمر قليلا.. وما هي إلا لحظات حتى توجّه الإمام نحو الرجال الثلاثة وعانقهم كأنّه يعرفهم.. وأبو صالح ينظر إليهم مستغربا.. فهو يعرف إمام المسجد.. إنّه الشيخ عمر.. أحد أفراد القرية ولا صلة له بهؤلاء.
بدا الأمر غريبا على أبي صالح.. والتساؤلات أخذت تملأ رأسه.. لكنه كان ينتظر لعل هناك ما يفسر ما يحصل.
بعد حديث قصير استمر دقائق بين الرجال الثلاثة وإمام المسجد.. توجهوا جميعا نحو أبي صالح.. وقال أحدهم: الآن ستزول دهشتك يا أبا صالح.. لعلك تسأل نفسك ما سبب زيارتنا؟ وما علاقتنا بالشيخ عمر؟
ثم قال الثاني: هيا إلى بيتك يا أبا صالح حتى نشرب الشاي كما وعدناك قبل الصّلاة.
وقت الشاي
عاد أبو صالح يرحب بالضّيوف ومعهم الشيخ عمر إمام المسجد حتى اقتربوا من المنزل فإذا بأبي صالح يتسمَّر في مكانه.. فقد وقعت عيناه على ما لا يتوقعه.. سيارته أمام بيته.. لكنّها في ثوب جديد.. لم يدر في ذهنه هذا على الإطلاق.. ذهب غموض زيارة الضّيوف الثلاثة.. لكنّه بدأ يتساءل: كيف ومتى حدث ذلك؟
اقترب أبو صالح من سيّارته.. وأخذ يفتح أبوابها ثم يغلقها.. ووجد بها مفتاحا فقام يشغّلها فإذا بها تعمل في هدوء وأمان.. دبت الحياة في نفس أبي صالح.. وترجَّل عن سيّارته.. وأخذ يلاطفها بلمسات رقيقة حانية من يده.. وشرع يشكر الله على ذلك.. لكنه عاد يتساءل بصوت مسموع: كيف؟ ومتى؟
تحدّث أحد الضيوف قائلا: أين الشاي يا أبا صالح؟
دخلوا جميعا إلى البيت.. وكانت أم صالح وزينب على علم بهذا قبل أبي صالح.. وقد أعدت أم صالح الشاي وبعضا من النعناع الأخضر الذي تنتجه القرية.. وقبل أن يتكلم أبو صالح بادر المطوِّع عمر بالحديث، وأخبر أبا صالح بأن هؤلاء الشرفاء عزّ عليهم ما صار إليه أمر سيارتك.. ولم يرضهم ذلك.. فقاموا بجمع مبلغ من المال منهم ومن أصحاب المحلات التجارية التي توصل الخضروات إليهم.
دموع الفرح
ثم أضاف قائلا: لم يتأخر أحد عن المشاركة حتى أصحاب المزارع ساهموا بما استطاعوا.. ثم كلّفوا الميكانيكي بشراء محرِّك جديد، وإصلاح السيارة وتوفير كل ما يلزمها.
المطوع يتحدّث.. وأبو صالح ينظر إليهم وعيناه تلمعان بدموع الفرح والشكر.. ثم فسّر المطوّع له بقية ما حدث، موضحا أنهم استغلوا فترة بقائك في البيت طلبا للشفاء، وقاموا بإصلاح سيارتك في ذلك الوقت.. واختتم أحد الرجال الثلاثة اللقاء بالقول: إن هذا أقلّ ما يمكن أن نقدمه لك يا أبا صالح.
امتلأ صدر أبي صالح بالسعادة، وقدّم شكره للجميع.. وقبل أن ينفضّ المجلس وعدهم بأن يُتم نقل الخضروات الطازجة اعتبارا من يوم الغد.