تركت مشاركتي في فريق قطر الخيرية لتقييم الوضع الإنساني في مدينة بلدوين الصومالية التي غرقت بالفيضانات في شهر مايو 2023 ، أثرا كبيرا في نفسي.. فعندما وصلنا مطار المدينة الواقع على أحد مرتفعات المدينة، شاهدنا المدينة التي كانت مكتظة بالسكان والحركة التجارية سابقا، وهي مشلولة لا تشاهد فيها إلا المياه التي غمرت داخل البيوت وطرقات المدينة. وفي طريقنا إلى الفندق الذي كنا نريد السكن فيه، وقفنا على الحالات الإنسانية في منطقة “عيل جالي” التي نزح إليها أغلب سكان مدينة بلدوين.
قصص من رحم مأساة فيضانات بلدوين الصومالية
من المشاهدات المؤلمة ما حدث للحاج محمد نور “ستيني” الذي كان أحد أثرياء مدينة بلدوين حيث أصبح بين عشية وضحاها من الفقراء بعد أن خسر بيته وتجارته، حدثنا الحاج محمد عن مأساته فقال: كانت حياتي مستقرة وكان لديّ منزل كبير وتجارة رابحة في مجال بيع الملابس، بدأتها بعد سفر وغربة لسنوات عن بلادي، وكنت أجمع كل قرش أحصل عليه مقابل أن تكون حياتي القادمة سعيدة، لكنّ كل هذه الآمال ذهبت مع تسلل المياه المتدفقة إلى بيتي ومركزي التجاري، وأنا هنا في المخيم لا حول لي ولا قوة.. من المؤلم فعلا أن ترى تعب السنين يضيع هباء أمام عينيك، لكن لا أملك إلا أن أقول: لاحول ولا قوة إلا بالله.
لهول المصاب وصدمة الكارثة يفقد البعض عقله، فعند عودة فريق قطر الخيرية من تفقد أحوال مخيمات “عيل جالي” سمعنا صوتا أشبه بالأنين، وعند تسليط ضوء السيارة صوب مصدر الصوت وجدنا امرأة تحاول إغراق أبنائها في مياه الفيضانات..نزلنا بسرعة لإنقاذ الأبناء الذين كتب لهم عمر جديد، وتم نقل الأم للمستشفى عن طريق الجهات المعنية بالمدينة، وإعطاؤها جرعة من المهدئات، وكلّ هذا يتمّ وهي تصرخ مذعورة بدون تركيز: “دعوني أقتلهم لانتحر بعدهم ..فلا حياة لنا الآن.. نحن لا نملك منزلا، ولا نستطيع أن نفترش العراء.. أريد أن أرسلهم لخالقهم فهو أحنّ عليهم من هذه الحياة”.
وحدثتنا الطالبة مريم عسبلي البالغة من العمر 18 عاما وهي حزينة “في الأشهر الثلاثة الماضية لم أكن أنام إلا قليلا كنت أراجع دروسي لأنني أستعد لدخول امتحان الشهادة الثانوية، كانت لحظة تسلل المياه في بيتنا أصعب اللحظات في حياتي.. مع الأسف لن أستطيع الذهاب إلى المدرسة ولا حضور الامتحان الوطني للشهادة الثانوية.”
المأساة لا زالت تتشكّل بصورة أو بأخرى فتارة تجد من يبوح بألمه وآخرين لا ينبسون ببنت شفة.. فالألم في الروح أصعب من أن يقال.. منهم الطفلة ربيعة (8 أعوام) التي وجدت نفسها مسؤولة عن عائلة بأكملها بعد أن كانت تتجوّل بين أزقة الحي غير آبهة بما يدور في العالم من حولها.. لقد أصيبت أمها (أم ربيعة) بالشلل جراء الفاجعة، والتي كانت العائل الوحيد لأبنائها الصغار بعد وفاة والدهم، وها هي ربيعة تسدّ مسدها الآن رغم عمرها الغضّ.
الألم مازال سيد الموقف والمشاهد المؤثرة كثيرة.. نسأل الله أن يتلطّف بنا وبعباده من متضرري الكوارث المدمِّرة.
رصدها: عبد الطاهر محمد عثمان
المقال منشور في العدد 29 من مجلة غراس
يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة