الدعوةُ إلى الله هي القضيةُ العظمى في حياة البشرية

2017-06-07

“يا صباحاه..يا صباحاه” بهذا النداء بدأ إعلانُ الدعوةِ المـحمـديّة في مكة، نداءٌ تعرفه العربُ جيداً، فهو بمثابة إنذارٍ بأخطرِ ما قد يلاقيه العربيُّ الآمن في أهله. قد يكون إنذاراً بغُزاةٍ يغيرون على القبيلة فيحرقون الأخضر واليابس، ويدفنون مجدها وتاريخها إلى غير رجعة، وقد تكونُ جائحةً أو مصيبةً تترصد بالديار لتتركها أثراً بعد عين، هذا الإنذار إذاً يصلحُ للتحذير من العذاب الأليم والخسران المبين، لذلك جعل منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مستهلَّاً لإعلان دعوته.

“الدعوةُ إلى الله” هي القضيةُ العظمى في حياة البشرية، ولأجلها كان الأنبياء، ولأجلها كانت بعثةُ محـمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولأجلها نادى “ياصباحاه” ليجمعَ أهل مكّة في صعيدٍ واحدٍ عند الصفا، ثم يعلن عليهم نبأ السماء، (فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد)

 لكنَّ المفارقة العجيبة تكمُنُ في نفوسٍ مريضةٍ، عميتْ بصيرتُها، فكان جوابها “تباً لك، ألهذا جمعتنا؟!”،

مهلاً يا هذا! لاتحسبنَّ الأمر مُزاحاً، فالأمرُ جدُّ خطير، ستصلى ناراً ذاتَ لهب، حتى الآياتُ الصاعقاتُ لم تردع المعرض الجاحدَ عن إعراضه، بل أوغل –وزوجُه- في الغيّ والأذى والضلال.

ذلك الموقف، بل ذلك المفصل التاريخيُّ في حياةِ البشر، يختزلُ لنا جانباً من معاناة الداعي إلى صراط الله المستقيم، المبشـِّر بالجنان المحذِّر من النيران،

تلك المعاناةُ هي ازدراءُ القضيّة واستصغارها، على مذهب أبي لهب “تباً لك، ألهذا جمعتنا!”.

ولعلَّ الأمر صغيرٌ في نظرِ المعرضين لأنَّ العواقب غير ملموسة، ولأنه أمرٌ آجلٌ لا تُرى نتائجه بل تُستشعر عقلاً وقلباً.

فما أصعب مهمتكم أيها الدعاةُ إلى الله، أيّة فلسفةٍ وأيّ فكرٍ عليكم أن تحملوا، لتجعلوا الصغير الهيِّنَ في النفوس عظيماً ،

وأيّ صبرٍ تحتاجُه رحلتكم لتتحمَّلوا أذى البشر، ولا حيلةَ معكم إلا العزم الصادقَ،

والحكمة والموعظة الحسنة، حقاً إنّها لسبيلُ الصابرين، ومهمّةُ الأنبياء والمرسلين،

أعظمُ الناس بلاءً في الدنيا، وأعلى البشر مقاماً في الآخرة، وهذا وقودُ صبرهم، وسرُّ استمرارهم.

الدعوةُ إلى الله طويلةٌ وشاقّةٌ

رحلةُ الداعي إلى ربه طويلةٌ وشاقّةٌ، ولايحتملُها إلا أولوا العزمِ من البشر، قد يخسرُ الداعي فيها بدايةً ولاء المحبين، ذلك أن الدعوةَ تبليغٌ لأمر اللهِ بتركِ ما حرَّم والتزام ما أمَرْ، وذلك ثقيلٌ على النفوسِ، وقد جُبلتْ على حبِّ الدنيا والدَّعةِ والشهواتِ،

فلا عجب أن يكون جوابها عند دعوتها كجواب ثَـمود: (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا، أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)، كان هذا جواب قومه حينَ حذرهم من بطلان ماهم فيه من الوثنية، التي لا يقبلها عقلٌ ولا منطق، لقد خاب فيك الظنُّ يا صالح كُنّا نحسبك عاقلاً !!  فيالها من مفارقات!.

تلك كلها حظوظُ نفسٍ بشريةٍ محضة، حجبَتْ عن أصحابها نورَ الهداية، واتباعَ سبيل المصلحين، لكنْ، ثمّةَ جانبٌ آخرُ من المعاناة على طريق الدعوة، جانبٌ يعكسُ صورةَ المعركة الأزليّةِ بين الحق والباطِل، تلك المعركةُ التي بدأت بقول إبليس – مخالفاً أمرَ ربه –  ( أنا خيرٌ منه) فكانت خسارتُه جليّةً واضحةً،

لا تعوزُه الفطنة لإدراكها، لكنه أبى أن يتراجع، بل راح يتوعَّدُ بإغواء الناس أجمعين، ولأنّهُ صاحبُ علمٍ وفطنةٍ، أدرك أنَّ من الناس صالحين لا يضيرهم كيده،

فقال مستثنياً: (إلا عبادك منهم المخلصين)، لتبدأ المعركةُ في الأرضِ بين الحقِّ متمثلاً بالأنبياء ومَن تبعهم من الهداة والمصلحين، وبين أتباع إبليس من شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً، همُّهم أن يصدُّوا عن سبيل الله، إنفاذاً لأمر سيدهم القائل: ( لأقعدنَّ لهم صراطَكَ المستقيم)، لقد اختار أن يكون وزمرتَـــهُ قُطّاعاً للطريق، معترضين سبيل الدعاة، عازمين على إفشالهم.

والخلاصةُ أنَّ التحديات في طريق الدعاة تتلخص في شقين: الشق الأول يتمثل في علل النفوس الجاهلةِ البشـريّة، والشقّ الثاني يتمثّل في المكائد الخبيثة الشيطانية.

ولعلّ علاج العلة الأولى البشريةِ، يكمن في الدعوة الحكيمةِ والكلماتِ الطيبة النافذةِ إلى طوايا القلوب، مصحوبةً بالمنطق المحكم لجلاءِ صدأِ العقول، فكان لابُدّ للداعية من الصبرِ على مشاقّ الرحلة في أقاصي الدنيا متزوداً بمكارم الأخلاق، همُّه همُّ الأنبياء والمرسلين، وهمَّتُه همّة الملوك والحاكمين، ليسير في طريقٍ دمِيَتْ فيها قدما النبي صلى الله عليه وسلم ، يحدوه نورٌ في الأفق البعيد يشدّ عزمه، ويذلل له السبيل.

أمّا المكائدُ الشيطانية، فتلك معركةٌ حقيقيةٌ وتحدٍّ أكبر، لا علاجَ لها إلا أن يحشد لها الداعيةُ طاقاته كلها، منكراً نفسَهُ، قد باعها لله وحده، لتصيرَ كلُّ حياته سهراً وجهداً وجِدّاً ودعوةً وهداية وسفراً وتجوالاً.

وما أروع وصف سليم بن منصور بن عمّار حين قال (فلو رأيتهم في ليلهم، وقد انتصبوا لنسخ ما سمعوا، وتصحيح ما جمعوا،

هاجرين الفرش الوطيَّ والمضجع الشهيّ، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفّهم أقلامُهم،

فانتبهوا مذعورين قد أوجع الكدُّ أصلابهم، وتيّه السهرُ ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا ليفقدوا النوم من مكانٍ إلى مكان، ودلكوا بأيدهم عيونهم، وعادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً بأهوائهم إليها، لعلمتَ أنُّهم حراسُ الإسلام، وخُزّان الملك العلام).

إنّ لله عبـــاداً فُطـــــــنا      طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علمــوا     أنها ليســـــت لحيٍّ سكنا
جعلوها لُــجةً واتخـذوا     صالح الأعمـالِ فيها سفنا

ملاحظة: المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر قطر الخيرية.

علاء فرحات

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق