كانت زخات الرصاص، وأصوات انفجار الدانات الرهيب يفاقم من حالة التوجّس في ضاحية الحتانة بأم درمان عندما وصلتُ إليها رفقة الفريق الميداني لقطر الخيرية بالسودان لتزويد تكية المسجد العتيق -أقدم التكايا لإطعام المتأثرين بالحرب في المنطقة- بالمواد الغذائية الضرورية بعد أن نضب مخزونها وتوقّفت لأيام عن صنع الطعام للأسر المتضررة والمتعففة والنازحة جراء الحرب.
جدول المحتويات
إطعام في مرمى النيران
أمسك الشيخ بخيت، إمام المسجد العتيق الواقع غربي النيل، والمشرف على تكيته، بيدي وسحبني بسرعة إلى داخل المسجد لأن باحته، كانت ولا تزال، في مرمى النيران في الضفة الشرقية بمدينة الخرطوم بحري حيث يصوبون بنادقهم ويطلقون رصاصاتهم القاصدة صوب كل قادم لم يعتادوا رؤيته من قبل في تلك المناطق المكشوفة التي مازالت تعيش أجواء الحرب.
وسط فرحة المصلين الذين كانوا وقتها خارجين للتو من صلاة العصر، نقلنا المساعدات الغذائية إلى داخل التكية التي إنطفأت نيرانها وسط شعورهم بالعجز وقيلة الحيلة. بعدها، أسرع الشيخ “السبعيني” بخيت ونادى بفرح “طفولي” لافت على أهل المنطقة عبر مكبر الصوت بالمسجد، وبشَرهم بأن نيران التكية ستوقد من جديد وسيصنعون الطعام للأسر المتعففة وعليهم أن يكونوا منذ صبيحة الغد في الموعد لأخذ حاجتهم. وأضاف: “أبشروا فقد وصل دعم أهل الخير في قطر “.
ملاذ الأسر المتضررة
وفي منطقة الحتانة نفسها، قدمت قطر الخيرية دعماً بالمواد الغذائية لتكية أخرى صارت ملاذاً للكثير من الأسر المتضررة من الحرب هناك. ومع انعدام غاز الطهي لم يكن أمام تلك التكية خيار سوى قطع الأشجار “بشكل غير جائر ” لاستخدام فروعها في صنع الطعام للمحتاجين.
إيثار رغم المسغبة
وصلنا إلى تكية العم حمدان الشهيرة بمنطقة الثورة، وهي من أكبر التكايا التي ظلت تعمل في تقديم الطعام للأسر المتعففة التي نزحت من مناطق ولاية الخرطوم التي تشهد اشتباكات عنيفة، إلى منطقة التكية الآمنة نسبياً. واستوقفنا هناك مشهد مئات المواعين التي وضعها أصحابها منذ الساعات الأولى من الصباح في صف طويل في انتظار دورهم لتسكب فيها ما صُنع لهم من إيدام يتقاسمونه بإيثار ورضا تام رغم المسغبة حيث يأتي للتكية أكثر من 700 أسرة يومياً فقدت مصدر دخلها وأصبحت تعتمد على ما يقدم لهم، لذلك ظل الأثر كبيراً جداً لدعم أهل الخير من دولة قطر، ومن كل مكان.
دور لتحفيظ القرآن واطعام العام
وفي منطقة كرري بأم درمان كذلك، تحوّلت دار المؤمنات لتحفيظ القرآن، إلى تكية بعد نزوح ألاف الأسر من مناطق الاشتباكات واستقرارهم مع أسر مضيفة بالمنطقة حيث أصبحت هناك العديد من الأسر تقيم في منزل واحد وتعتمد بصورة كلية على الطعام الذي تأخذه من التكية التي كانت قطر الخيرية أول منظمة تدعمهم بالمواد الغذائيةـ ولا عجب، كما قالت مديرة الدار دولت إبراهيم لأن الدار نفسها- تم إنشاؤها بأموال أهل الخير في قطر”.
عودة للدور الإنساني القديم
ومنحت الحرب في السودان قُبلة الحياة للتكايا من جديد، وهي عبارة عن دور اشتهرت تاريخياً في السودان بالذكر واستضافة أصحاب الحاجات وتقديم الطعام لعابري السبيل والمحتاجين الذين ليس لديهم مورد للدخل حيث عادت للحياة والعمل وأداء دورها الإنساني القديم الذي ارتبط بالإرث السوداني الخاص بدعم أهل الخير للخلاوي.
وتعد التكايا قصة نجاح ملهمة للمجتمع السوداني الأصيل، وللمنظمات المساندة حيث بلغ عددها بالمناطق المتأثرة بالحرب في ولاية الخرطوم وحدها (538) تكية، وكان لقطر الخيرية سهم وافر في دعم أهم تلك التكايا من أجل حياة كريمة للنازحين، والأسر المتضررة من الحرب.