العطاء .. المفتاح السحري للسعادة

علي الرشيد
2025-01-12

“السعادة” ضالة يبحث عنها جميع الناس بلا استثناء، ومفردة اهتم بها الفلاسفة وتناولتها الشرائع السماوية عبر مسيرة البشرية، لأنها ترتبط بما يصبو إليه الإنسان من طمأنينة وسكينة وارتياح وسرور. وقد اهتم البشر بالبحث عن مصادر السعادة والطرق الموصلة إليها، سواء كان حرصهم عليها مرتبط بحياتهم في الدنيا فقط، أو الدنيا والآخرة معا.



تعريف السعادة والسعداء

وترتبط “السعادة” بالرضا والسلام النفسي وتقبل الظروف والتكيف معها ومع الأحداث، وتعرّفها خبيرة السعادة والإيجابية وجودة الحياة “رولا عصفور” بأنها “حالة عاطفية تتميز بمشاعر الفرح والرضا، ويتفاوت الشعور بالسعادة بين البشر حسب مستوى رضا الفرد عن “رفاهيته الذاتية” (مصطلح علمي للسعادة والرضا عن الحياة، وطريقة التفكير والشعور بأن حياته تسير على ما يرام)

والسعداء وفق دراسة أجرتها جامعة بريستول في المملكة المتحدة هم الأشخاص الذين يتمتعون بصحة أفضل، ويعيشون لفترة أطول، بالإضافة إلى أن لديهم علاقات اجتماعية أفضل، وإنتاجيتهم في العمل عالية.

منظور الأديان والفلاسفة للسعادة

ويستخدم القرآن الكريم كلمة “السعادة” بنفس لفظها أو بألفاظ مشابهة مثل “الحياة الطيبة”، فعن سعادة المؤمنين في الجنة ونعيمها المقيم يقول الحق سبحانه {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108)، وأما سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة فيقول سبحانه: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (النحل:97)، بكل ما في ذلك من طمأنينة قلب وسكون نفس في الدنيا، وأجر عظيم مقيم في الآخرة.

وكما يتضح فقد ربط الإسلام السعادة لدى المؤمن بالعمل الصالح والخير، أما أرسطو وهو أكثر الفلاسفة الذين اهتموا بمفهوم السعادة فقد ربط بينها وبين تحقيق الفضيلة في الحياة.

وتوثر السعادة على صحة الإنسان بدنيا ونفسيا، وقد كشفت الأبحاث الطبية الحديثة عن هرمونات معينة تسهم في تعزيز مشاعر البهجة وسميت “هرمونات السعادة”، وهي ترتبط بتبني أفكار وممارسات إيجابية وترفيهية.

طرق تحقيق السعادة

تقول الدكتورة “هلا السعيد” في مقال لها: إن السعادة والراحة النفسية مشاعر داخلية تنبعث من الروح وتؤثر على كافة مناحي الحياة الخاصة بالأشخاص، لذا لابد من تدريب النفس على هذه المشاعر والتصرفات الإيجابية، وذلك من منطلق أن السعادة قرار” وترى أن من هذه الأمور: الثقة بالنفس وعدم جلدها، والتخلص من الطاقة والأفكار السلبية، ونسيان الماضي والتجارب الفاشلة، والرضا بقضاء الله، وممارسة الرياضة والهوايات المفيدة، والسفر، والترفيه عن النفس، وتناول الأطعمة المغذية. فيما اعتبرت خبيرة التنمية البشرية “داليا نبيل مطر” أن من خطوات تحقيق السعادة التخلص من منغصاتها الأربع وهي: القلق والتوتر، والمقارنة بالآخرين، واللوم والعتاب للنفس وللآخرين، والتوقعات التي قد لا تأتي كما يريد الإنسان والتي تؤدي للإحباط، واتفقتا على أهمية جانب مهم في تحقيقها ألا وهو العطاء وعمل الخير ومساعدة الآخرين، وهي مفردات تعبر عن معنى واحد أو تخدم هدفا مشتركا.



دراسات علمية عن دور العطاء والتطوع في تحقيق السعادة

ونظرا لأهمية التطوع والعمل الخيري والخدمة المجتمعية والصدقة والبذل في تحقيق السعادة والطمأنينة للإنسان وتأثيرها على صحته النفسية والبدنية، فقد حظيت باهتمام الكثير من الأطباء والباحثين والأكاديميين في الغرب، وصدرت لهم دراسات متنوعة تتعلق بها، وصار للعطاء علم يسميه الغرب علم الجود” ”Science of generosity

وللتدليل على ذلك ننوه ببعض هذه الدراسات:

إن فعل الخير ذو طاقة إيجابية عظيمة فهو يُطلق هرمونات تؤثر في فاعل الخير نفسه، فتحسن مزاجه، وتخفض مستويات التوتر، وهو ما يؤكده البروفيسور “جيفري بور” Jeffrey Burr ، أستاذ علم الشيخوخة، بقوله: “تُظهر مجموعة متزايدة من الأبحاث العلمية أن مساعدة الآخرين، بما في ذلك الانخراط في أنشطة التطوع ، ترتبط بتحقيق نتائج صحية أفضل في الحياة”.

وفي دراسة نشرتها مجلة “علم النفس الإيجابي” بعنوان: “الشفاء من خلال المساعدة” خلصت إلى دور فعل الخير في تحقيق الشفاء والعافية، وقد عرفت الدراسة “التعاطف” أو “فعل الخير” بأنه: “أعمال كبيرة أو صغيرة تفيد الآخرين أو تجعل الآخرين سعداء، وعادة ما يتحمل الشخص تكلفة ذلك من حيث الوقت أو الموارد”، وأشارت الدراسة أن كون الإنسان طيبا وفاعلا للخير يساعد كلا من المانح والمتلقي، لأن ذلك يُنتج مواد كيميائية جيدة مثل الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين (هي الهرمونات التي يطلق عليها هرمونات السعادة).

على الصعيد النفسي، أظهرت دراسة نشرت في مجلة “Psychological Science” أن الأفراد الذين يمارسون الأعمال الخيرية يتمتعون بمستويات أقل من الضغط والقلقويوضح البروفيسور “ستيفين بوست” مؤلف كتاب “The Hidden Gifts of Helping كيف أن العطاء يمكن أن يؤدي إلى شعور بالسعادة والرضا، مؤكدًا على القول المأثور “أن المعطي أكثر سعادة من الملتقي”.

هرمونات السعادة

كما أوضحت دراسة للمعهد الأمريكي للصحة، تمّ فيها استخدام الرنين المغناطيسي للدماغ، أن القيام بأعمال خيرية كالإنفاق والكرم يؤدي إلى توهج مركز الثواب في الدماغ، وهو ما يسميه بعضهم “وهج الكرم”، كما أن أبحاث المعهد تشير إلى أن العطاء يساعد على إفراز هرمونات تحفز جهاز المناعة بالجسم، والحديث هنا عن هرمونات سحرية تعطي جرعات عالية من الشعور بالسعادة والارتياح ومن أهمها ـ وفق ما أوضحته الأكاديمية حياة بن بادة في مقال لها عن سكيولوجية العطاء ـ:

  • ـ”الدوبامين” الذي يساهم في تنظيم الشعور بالمتعة والسعادة، ويطلق كاستجابة طبيعية للتجارب التي تعتبر مجزية أو مرضية بالنسبة للفرد.
  • ـ”الأندروفين” الذي يمتلك قدرة مذهلة على التخفيف من الألم وإحداث شعور بالرفاهية، ويُفرز بشكل طبيعي في أوقات الضغط البدني أو الإجهاد، ويعزز في الوقت نفسه شعورا عاما بالسعادة والرضا.
  • “السيروتونين” الذي يعمل على تعديل المزاج والشعور بالراحة النفسية.   
  • “الأوكسيتوسين” الذي بدوره يعمل على توليد المشاعر الجميلة وتخفيض نسبة الضغط والقلق والتوتر.

اليوم العالمي للسعادة

وحسنا فعلت الأمم المتحدة حينما خصصت يوما عالميا للسعادة (20 مارس من كل عام) ابتداء من سنة 2012، لأنه يمثل اعترافا بأهمية السعي للسعادة أثناء تحديد أطر السياسة العامة لتحقيق التنمية المستدامة، والقضاء على الفقر وتوفير الرفاهية للشعوب.

كما تؤكد معايير تقارير السعادة التي تصدرها “شبكة حلول التنمية المستدامة” التابعة للأمم المتحدة لتحديد الدول الأكثر سعادة على أهمية التكافل الاجتماعي والعطاء، ففي تقرير عام 2028 تم اختيار فلندا ثم النرويج بناء على ستة معايير رئيسة منها: حصة الفرد من الناتج المحلي والحرية ومتوسط العمر المتوقع والدعم الاجتماعي والكرم.
الخلاصة وزبدة القول إن العطاء ومد العون للآخرين والتطوع من أهم مفاتيح السعادة، ولو عرف الناس انعكاس هذه الأعمال وأثرها على أنفسهم لازدادوا إقبالا عليها، وكما قال باحثون أمريكيون “لوكان في الإمكان وضع التطوّع في حبة دواء، لكانت الأكثر مبيعاً، إذ إنه يزيد المرء سعادة وصحة وعمرا”، ولعل هذا ما سبقهم إليه القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف في آيات وأحاديث عديدة، منوها بسعادة أهل الخير والرحمة والإحسان.  

علي الرشيد
إعلامي وكاتب متخصص في الشأن الإنساني والثقافي
يعبر المقال عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر قطر الخيرية.

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق