ما زلنا نواصل حديثنا عن موضوع الصدقة، لنكشف بعض أسرارها وفضائلها. فهي تجدد في الفرد روابطه المتعددة، رابطه مع دينه وخالقه فيستشعر الأجر والمثوبة، ورابطه مع محيطه ومجتمعه، من خلال تفاعله الإيجابي مع الحياة، فهو يعين المحتاج والمضطر، بل تجعل منه الصدقة نِعمَ القدوة والمرشد، عبر نشره للخير بسلوكه بين أهله ومجتمعه. ففي مقالنا هذا سوف نتطرق لليسير فقط من أثر الصدقة على الفرد والمجتمع.
ستتعرف في مقال “أثر الصدقة” على:
أ* أثر الصدقة على الفرد
1* أثر الصدقة على نفس الفرد
كنا تكلمنا في مقال سابق عن فضائل الصدقة على الفرد في دينه ودنياه، وأشرنا إلى أن الصدقة سبب لانشراح صدر المؤمن وشفاء له من الأنانية والبُخل، فالصدقة أفضل مدخل لمدرسة البذل والعطاء لمساعدة المحتاجين. فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ؛ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا ولا تَتَّسِعُ) [رواه البخاري ومسلم].
2* شفاء من الأمراض القلبية
يعتلي الإنسان في مسار حياته الكثير من الدرن الذي يثقل قلبه ويتعبه، مثل الكِبر والحسد والغل والأنانية، بل وقد تغطي هذه الأدران كامل قلبه إذا لم يبادر إلى تطهيره بين الفينة والأخرى، عبر الدعاء والصلوات وفي مواسم الخير في رمضان والحج.
كما أن للصدقة مفعول السحر على قلب المسلم، فيشعر بعد أن تصدق وأعان محتاجاً، أن قلبه عاد خفيفاً، وكأن عروق قلبه عادت لتضخ دماً في كامل جسده لتعيد له الحياة بعد أن تكلّس لفترة، فيشعر براحة وسعادة. وكيف لا وهو يقتدي بالمعلم الأول نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قال ناصحاً الصحابي الذي اشتكى له من قسوة قلبه: «إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم» [رواه أحمد].
3* أثر الصدقة على مال صاحبها
يقول عليه الصلاة والسلام: ” مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ.” [أخرجه مسلم]. فلك أن تسأل أخي أصحاب الخبرة من المتصدقين والمنفقين سراً وجهراً، ممن يخرجون زكواتهم المفروضة في أوقاتها المعلومة. اسألهم ما ذا حل بأموالهم؟ هل نقصت؟ هل ضاعت؟ أم هل تضاعفت ونمت؟ فيجيبك هؤلاء – بلا تردد- أن أموالهم نمت وتضاعفت ليس بجهدٍ قاموا به، بل ببركة الصدقة والإنفاق من دون تردد. فقد خبروا عن تجربة قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا “[رواه البخاري ومسلم].
4* دفع البلاء
حياة البشر في هذه الأرض ملأى بالأحداث، الكثير منها جميل، والكثير منها أيضاً فيه ألم وبلاء. والمسلم – مثل سائر الشر – يسعى ما أوتي ليخفف عن نفسه البلاء الذي قد يُصيبه في نفسه أو جسده أو ولده أو ماله. فقد علّمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، كيف لمعروفٍ نصنعه أن يحفظنا من نهايات السوء والعياذ بالله. فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ»
ب* الأثر الاجتماعي للصدقة
1* إدخال السرور على قلب الفقير وذي الحاجة
يتجاوز مفهوم الصدقة في الإسلام جانبها المادي، بل يتعمق في أثرها الاجتماعي، والذي تتحقق به مصالح العباد. فيحث الإسلام العبد على عدم احتقار أي معروف يجلب السعادة والطمأنينة للآخرين، حتى لوكان ذلك أن يلقى أخاه بوجه طلق. فعُدَّ ذلك صدقة. فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنهما، عَنِ النبي، صلى الله عليه وسلم، قَالَ «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تُفرغ من دلوك في إناء أخيك» [رواه الترمذي].
إلى غير ذلك من أعمال البر والعون التي يحصل بها قضاء حاجة فقير أو تفريج كربة محتاج، مثل التصدق بالمال أو الطعام أو الملابس. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» [رواه مسلم].
2* التكافل بين أفراد المجتمع الواحد
يسعى الإسلام إلى تخفيف الفروقات بين المجتمع الواحد حتى يسود الأمن والاستقرار بين أفراده، فأقرّ مبدأ التكافل لكي يحثَّهم على الإنفاق لمساعدة الفئات التي هي أمس الحاجة. فأقر الزكاة وكفالة اليتيم، ورغبَّ الناس في حفر آبار الماء أو إطعام المساكين، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تحد من انتشار التباغض والحقد والحسد ويحل محلها الحب والاحترام والود بين مختلف طبقات المجتمع.
وتبقى الصدقة أحد أبرز مظاهر التكافل الاجتماعي، لأنها تركز على تغطية الحاجات الضرورية واليومية للفقراء والأسر المتعففة، من أكلٍ ولباسٍ ودواء. بل أن رسولنا الكريم اعتبر أن أي عمل صالح صدقة، بل أنه جعل من الصدقة أحد الأسباب التي يسعى من أجلها المؤمن إلى عمله. فعن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَيَأْمُرُ بِالخَيْرِ» أَوْ قَالَ: «بِالْمَعْرُوفِ» قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ» [رواه البخاري ومسلم].
3* القدوة الحسنة
يحتاج البشر إلى قدواتٍ في شتى مجالات حياتهم، فيتأثرون بها ويقتفون أثرها. وعمل الخير من أفضل الدروب التي تحتاج إلى قدوات تقود الناس إلى البذل والعطاء. فعمل بسيط تقوم به في لحظة صدق، تتصدق ببعض المال أو تعين مكروباً، فيكون أثره أبلغ من عشرات الخطب والكتب، فتبث الأمل في النفوس بأن الحياة لا زال فيها الخير الكثير.
فقد لا تتمكن بصدقتك أن تعين كل فقراء في هذا العالم الفسيح، لكن عملك سيدفع آخرين إلى الإقدام والاقتداء بك. فعملك – على بساطته – قد ساهم في جعل العالم مكاناً أفضل للعيش الكريم.
4* لكي نربي أبناءنا على الصدقة وعمل الخير
أبناؤنا قُرة أعيننا، الذين نتمنى لهم دوام العافية والخير. ومن دوام الخير أن نوجههم لما فيهم صلاحهم من عمل الخير. وأول شيء نقدمه لهم هو أن نكون نحن أفضل قدوة وأحسن مثال على الإقدام على الصدقة وفعل الخير.
ثم يأتي بعد ذلك أن نسعى إلى تعويد الأبناء – على حسب طاقتاهم وأعمارهم- على حب الصدقة ومساعدة المحتاجين. وهناك الكثير من الطرق البسيطة التي تعيننا على ذلك: كأن تخصص حصالة لمساعدة الفقراء وتضعها في مكان بارز من البيت، حتى تشجع أبناءك على جمع المال لمساعدة الفقراء. ففي الغالب ستكون مساهمة الأبناء بسيطة، لكن القصد من هذا هو تعويد الطفل على التصدق بالمال. فالطفل إذا شبَّ على شيء بقي معه طول حياته، فاليوم يتصدق بالقليل وغداً عندما يشتد ساعده سيسهل عليه أمر إنفاق المال على الفقراء.