رأينا في مقال سابق كيف أن من فطرة البشر أن ينشأ الطفل بين أبوين وتحت رعايتهما، ولذلك حكمة إلهية عظيمة، فالأسرة هي البيئة الطبيعية ذات الأثر الفعال في تشكيل وتنمية جميع جوانب النمو لدى الطفل، حيث يتحقق من خلال أبويه إشباع الحاجات الأساسية لديه سواء كانت حاجات اجتماعية أو نفسية أو عاطفية. خاصة لدى الأيتام الذين هم في أمس الحاجة إلى الرعاية الاجتماعية والدعم النفسي.
ستتعرف عبر هذا المقال على :
والطفل الذي يعاني من ألوان الحرمان الشديد في حياته العاطفية المبكرة لأي سبب كوفاة أحد الوالدين أو كليهما أو مرضهما أو سجن الوالدين أو أحدهما تكون استجابته دائما ضعيفة لا تقوى على تحمل أعباء الحياة ومتاعبها.
بل إن هذه العوامل جعلته عاجزاً بصفة مستمرة عن تكوين علاقات المحبة مع الآخرين، وذلك بسبب عدم استقرار الطفل وتأهبه لمواجهة الحياة وعجزه عن إشباع رغباته داخل الأسرة، ذلك بأن الشعور بالحرمان ينتج عن وجود حائل دون الطفل وإشباع رغباته وحاجاته، وفي نفس الوقت يتضمن هذا الشعور تهديداً للطفل وشخصيته.
تأثير التحديات التي يواجهها الطفل وتحد من تنشئته الاجتماعية
وتعدّ شريحة الأطفال هي الأكثر عرضة للمعاناة والتأثر نتيجة الأزمات أو الكوارث أو الحروب أو الفقر.
ومن الأزمات التي تتعرض لها الأسرة – بصفتها النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية – الطلاق وموت الأب، وهو ما يتسبب في تأثر الرعاية الاجتماعية للأطفال ويؤدي بهم إلى العزلة والانطواء أو ضعف التواصل مع الآخرين أو انتهاك بعض حقوقهم الأساسية، كالحرمان من التعليم والاضطرار للعمل المبكر …الخ.
وتفضي الحروب والكوارث، إضافة لما سبق، إلى التعرض للصدمات النفسية، وتؤثر على رفاه الأطفال ونموهم الاجتماعي والنفسي نتيجة فقدان الأهل والأصدقاء أو جزء منهم، وصعوبة الظروف المعيشية، وعدم القدرة على توفير الدعم المالي للأسر والخدمات الأساسية.
أما في حال موت الأب قد تتعرض الأسرة لهزات كبيرة، نظرا لفقدان دعامة أساسية فيها، بما تمثله من دفء ورعاية وتوجيه، وتوفير الاحتياجات المعيشية لها، حيث تجد الأم نفسها وحيدة أمام تحديات عديدة أهمها المسؤولية الكاملة عن الأسرة ماديا ومعنويا.
ضغط تربية الأبناء على عاتق الأرملة
فتضطر الأم إلى ممارسة مهمة الرعاية والتربية ومتابعة شؤون أولادها، وربما العمل إلى جانب ذلك لتوفير مصدر دخل للأسرة في حال القدرة على ذلك. وأي خلل في القيام بهذه المهام جميعا ـ خصوصا مع عدم وجود معين ـ يؤدي لاختلالات نفسية واجتماعية تدفع الأم وأطفالها ضريبتها.
وقد تكون المشكلة أكبر فيما لو تخلت الأم عن أسرتها لسبب أو آخر (على ندرة ذلك في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بسبب الزواج مثلا)، وهو ما يتسبب بتفكك الأسرة واحتمالات تعرض الأطفال للانحراف والضياع والاستغلال.
وعطفا على ما سبق؛ فإن ثمة حاجة للاهتمام بجانب الرعاية الاجتماعية والنفسية للأيتام.
نظرا للتحديات التي تواجه مسيرة حياتهم ونظراً لعدم قدرتهم على إشباع حاجاتهم بأنفسهم، وضرورة تدخل أو دعم أطراف لتحقيق وإشباع هذه الحاجات عبر أشكال مختلفة.
الرعاية الاجتماعية للأيتام
ويُقصد بالرعاية الاجتماعية للأيتام الجهود الرسمية وغير الرسمية التي تقدم للأطفال الأيتام حقيقة أو حكماً في مؤسسات إيوائية أو أسر بديلة، أو حتى لو كان مقيما مع أسرته (أمه وأخوته)، من خلال كفالة كالكفالة الشائعة حاليا لدى المؤسسات الخيرية العربية، التي تتضمن دعماً مالياً شهرياً إضافة لأنشطة وفعاليات دورية تخصص لليتيم في المجالات التربوية والثقافية والاجتماعية والترفيهية.
وقد أهتم المجتمع الدولي بحقوق الطفل، فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الطفل الصادر عام 1948 على حق الطفل في الرعاية والمساندة، وأن على الإنسانية أن تقدم للطفل خير ما عندها دون تمييز بسبب الجنس أو الجنسية أو الدين.
كما أن الطفل يجب أن يوضع في موضع يمكنه من النمو بشكل عادي من الناحية المادية والروحية، مع توفير الغذاء والعلاج والعناية وتوفير المأوى للطفل اليتيم والمشرد، وأن يكون الطفل أول من يتلقى العون في أوقات الشدة، ويجب حمايته من جميع صور الاستغلال والمعاملة السيئة.
وحتى تتم المفاضلة بين نظم ونماذج كفالة الأيتام فلابد من التعرف على أهم حاجة أساسية للطفل لننظر ماهي أفضل النماذج التي تحقق ذلك.
هرم ماسلو
ويعد هرم الاحتياجات الذي وضعه ماسلو، العالم النفساني الأمريكي، من أهم ما تمّ الحديث عنه بشأن احتياجات الإنسان عموما، وضمنه الطفل وهي متدرجة من الأسفل للأعلى:
فمن وجهة نظر ماسلو، أنه كلما حقق الإنسان حاجة انتقل إلى طلب الحاجة التي تليها علوا في هرم الحاجات. وينبغي النظر إلى الحاجات على أنها كلّ متحد، تعتمد فيها المستويات العليا (النمائية)على تحقيق الحاجات الدنيا الأساسية.
إلا أن وصول الفرد إلى مستوى معين من الحاجات، لا يلغي دور الحاجات الدنيا، ولا يمنع الفرد من الرجوع أحيانا إلى مستويات أدنى، ويعد ذلك أمرا طبيعياً.
الاحتياجات الاجتماعية للطفل
ومن أهم الاحتياجات الاجتماعية للطفل:
أ ـ الحاجة إلى الانتماء الاجتماعي
يبدأ من مكانه الطبيعي في الأسرة، وإذا لم يتم ذلك بالطريقة المقبولة فمن المنتظر أن يترتب على ذلك انحرافات اجتماعية ونفسية خطيرة.
ب ـ الحاجة إلى تأكيد الذات
يحتاج الطفل لتأكيد ذاته ولا يتم ذلك إلا في وسط اجتماعي طبيعي يشعر فيه بأنه طرف جماعة تقبله وتعترف بجهوده ومساهمته في أنشطتها، والأسرة هي الجماعة الإنسانية الأولى، التي يجد فيها الطفل لإشباع هذه الحاجة ويتم ذلك من خلال مديح أبويه له وتشجيعهما له وإعجابهما وبعمله وسلوكه.
ج ـ الحاجة إلى القيام بدور اجتماعي معين
وهي حاجة مهمة جدا في النمو الاجتماعي للطفل، فمن خلال الوسط الاجتماعي ( الأسرة) يشعر الطفل بأن له دورا يرتبط بجنسه وسنه ونموه، كأن تساعد طفلة أمها بأعمال البيت، ويساعد الطفل الذكر والده في العمل وشراء احتياجات منزله.
دـ الحاجة إلى المكانة الاجتماعية
وهذه الحاجة مرتكز أساسي في حياة الطفل على الرغم من صغر سنه، يشعر بذلك ويحسه داخليا من خلال علاقات الرفض والقبول والحب أو الكراهية أو العداء، أو من الأوصاف التي يوصف بها ويسمعها من والديه، يبدأ بمحاولة إشباعها من الطفولة إلى أن يصبح رجلا كبيرا يحب أن تكون له مكانة في أسرته ومجتمعه.
هـ الحاجة إلى التعامل الاجتماعي
لا يستطيع الطفل أو الإنسان عموما العيش بدون مجتمع، ومن خلالها يتشرب الطفل الثقافة كاملة بمعاييرها وقيمها..
و- الحاجة للأمن الاجتماعي والطمأنينة
يحتاج الطفل لجو اجتماعي آمن لا يتعرض فيه للتهديد والخطر المادي والمعنوي، والأسرة هي المكان الأول الذي يشبع فيه الطفل هذه الحاجة، وفي حال لم يتم ذلك ممكن أن ينمو الطفل مع العديد من المشكلات النفسية مثل الاضطهاد والخوف..
ز ـ الحاجة للحب
الحاجة للحب لا تقلّ عن الغذاء والشراب، والأسرة والأم في المقام الأول منبع إشباع هذه الحاجة، وتتطور إلى كلمات وتصرفات الرضا التي يسمعها أو يلمسها عندما يكبر وخاصة من أسرته وأمه.
ح ـ الحاجة للمهارات الاجتماعية:
كيفية التعامل والارتباط بالناس، مثل تكوين الصداقات وقضاء الحاجات، وإن لم يتعلم الطفل هذه المهارات فمن المنتظر أن ينمو منعزلا لا يعرف كيف يتصرف مع زملائه وأفراد المجتمع.
ومن هنا يمكن القول إنه في ظل ابتعاد الطفل عن بيئته الطبيعية في الأسرة يصبح طفلا غير طبيعي معرضا للعديد من الاضطرابات النفسية والمشكلات الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق فإن من الأفضل لليتيم أن يعيش في جو أسري واجتماعي، وكلما كان قريبا من البيئة الاجتماعية الطبيعية كان نموه سليما وكلما ابتعد عن ذلك كان هذا النمو خلاف ذلك لذا يفضل أن يعيش اليتيم مع أمه وأسرته، وإن تعذر فمع أحد من أرحامه وأقاربه أو يعيش في ظل أسرة بديلة.
كما لا بد من دعم أسر الأيتام (أمهات وأيتاما) لضمان مساعدة الأيتام على إشباع حاجاتهم الاجتماعية والنفسية من خلال الكفالات وبرامج الرعاية الاجتماعية، وتخصيص دورات تثقيفية وتوعوية لأمهات الأيتام في أمور تربية ورعاية الطفل وتعليمهن المهارات الحياتية.
فالكثير من الأمهات الكافلات يأتين من بيئة يتفشى فيها الجهل، وقلة الخبرة أو الوعي في إدارة موازنة الأسرة، مما يجعل إنفاق المال الموجه لليتيم أصلا لا يتم بصورة مرضية في الكثير من الأحيان، ويضيع الكثير من الفرص.
الدعم النفسي
يحتاج الأيتام للدعم النفسي خصوصا في ظل الأزمات والكوارث، وهو ما يسمى بالدعم النفسي في حالات الطوارئ، من أجل التغلب على التجارب الصعبة والحد من تطور المشكلات النفسية لدى الأطفال، وإنشاء شخصية سوية وسليمة يمكنها الاعتماد على نفسها مستقبلا. وتشمل جهود الدعم الأنشطة الثقافية المناسبة للفئات العمرية والأنشطة الآمنة والمحفزة مثل الرياضة والألعاب لتنمية المهارات الحياتية وآليات التكيف ودعم الصمود.
وتوجه هذه الجهود للأطفال الايتام وأمهاتهم على اعتبار أن عبء تربية أولادهن يلقى عليهن. وهناك أدلة مختلفة حول خدمات الدعم النفسي أصدرتها منظمات دولية مثل: “الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي في حالات الطوارئ: ما الذي ينبغي أن يعرفه العاملون في مجال العون الصحي الإنساني؟” ـ إصدار منظمة الصحة العالمية.
من كتاب “رفقاء … أكبر عائلة في العالم” – سلسلة غراس رقم (11) – قطر الخيرية (بتصرف).