دراسة : التعليم في سياق النزاعات : لمحة عامة (2)

عبد ربي بن صحراء
2020-09-24

رغم أن القوانين الدولية ذات الصلة خصوصا القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان تمتد لحوالي قرن ونصف من الزمن بالنسبة للقانون الدولي الإنساني وأزيد من 75 سنة بالنسبة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن الاهتمام بموضوع التعليم في سياق النزاعات لم يبرز بشكل واضح وجلي إلا مع اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 وما تلاها من مبادرات دولية بعد ذلك، التي حاولت أن تستلهم من نصوص هذه الاتفاقية لتعزيز فرص استفادة الأطفال من حقهم في التعليم بما في ذلك أثناء النزاعات.

لكن قبل الخوض في هذه الجهود لابد من الإشارة إلى مسألتين مهمتين: أولا، من حيث الإطار المفاهيمي العام، لا يعني ما ذكر أن التعليم في سياق النزاعات كان غائبا تماما عن الاهتمامات قبل قاعدة اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989، فيكفي أن نشير هنا على سبيل المثال إلى ميثاق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) التي تأسست منذ سنة 1945، وضع إشكالية التعليم والنزاعات في إطارها الحقيقي عندما أكد على أنه ” لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام.”[1]

فلا شك أن هذه الجملة البليغة تختزل الرسالة الرئيسة التي تضطلع بها اليونسكو بخصوص تعزيز السلام عبر العالم، لهذا يمكن أن نقرأ من خلالها إشارة واضحة إلى أهمية التعليم قبل وأثناء وبعد النزاع. فالتعليم يقي من النزاع عندما يسهم في تعزيز اللحمة الاجتماعية والعيش المشترك وفي التربية على المواطنة.

وعندما لا يكون من النزاع بد، باعتباره ظاهرة بشرية، فمن شأن التعليم أن يحد من مخاطره ويهيئ ظروف الخروج منه بأقل خسائر ممكنة. ولما يفض النزاع أو تضع الحرب أوزارها يسهم التعليم بشكل فعال في التعافي وإعادة البناء.

ثانيا، من حيث الممارسة، لنا عبرة بليغة في تعامل الدول الغربية مع التعليم أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية باعتبارهما أكبر نزاعين مسلحين مر بهما العالم على الإطلاق.

لقد حرصت هذه الدول رغم الدمار وويلات الحرب على ضمان استمرارية العملية التعليمية ليس لغرض ضمان حق الأطفال في التعليم فحسب، بل قد أثبت الواقع أن من أسهموا في النصر بشكل فعال لم يكونوا فقط ممن واجهوا الموت في ساحات الوغى بل أيضا ممن شغلوا صفوف الدراسة وقضوا الساعات الطوال في المختبرات البحثية والعلمية.

كما كانت أنظمة هذه الدول مقتنعة تماما بأنه سيأتي يوم تنتهي فيه الحرب، فكرست جزءا مهما من جهودها للاستعداد أثناء الحرب لإعادة البناء أثناء السلام.. فليس هناك مجال لضياع الوقت. وقد كان ونستون تشرشل يحرص دائما على سؤال مستشاريه أثناء حصص إحاطتهم له بآخر مستجدات الحرب، كان يحرص على سؤالهم عن حالة أمرين اثنين: الأطفال، والتعليم.. وكان كلما طمأنه مستشاروه بأنهما بخير رد عليهم في اطمئنان “إذا، فالأمة بخير، والباقي مجرد تفاصيل.”

بعد هذا الاستطراد الذي استدعته ضرورة الإشارة إلى ربط التعليم أثناء النزاع بقضايا السلم باعتباره مطلبا دوليا، وأيضا ضرورة المقارنة بين الدول المتقدمة والدول النامية بخصوص سياساتها وسلوكها تجاه التعليم في سياق النزاعات، نعود إلى الجهود التي تلت اعتماد اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 بخصوص التعليم في سياق النزاعات.

لكن قبل ذلك لابد من التذكير بأن أهمية هذه الاتفاقية تكمن في أمرين مهمين: فهي من جهة اتفاقية دولية خاصة بالطفل تحديدا، لهذا جاءت لتركز على مختلف حقوقه ولتؤكد على اتخاذ مختلف التدابير اللازمة من أجل احترام وضمان وصيانة هذه الحقوق، كالتعليم مثلا، بما في ذلك في سياق النزاعات والحروب.

ومن جهة ثانية جاءت الاتفاقية لتدعو إلى احترام كل العهود والمواثيق الدولية ذات الصلة مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، وباقي الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني وتحديدا اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين لسنة 1949.


التعليم في سياق النزاعات

باختصار شديد، فإن من أهم المبادرات الدولية التي حاولت معالجة مسألة التعليم في سياق النزاعات كحق أساسي من حقوق الطفل غير القابل للتصرف نذكر ما يلي:

1. مبادرة التعليم للجميع لسنة 2000، فقد حددت هذه المبادرة حزمة من ستة أهداف استراتيجية من أجل توفير التعليم للجميع بمن فيهم ضحايا النزاعات، كما حددت مجموعة من الاستراتيجيات لتحقيق هذه الأهداف.

أكدت المبادرة على ضرورة إيلاء اهتمام خاص للبلدان التي تعاني من حالة نزاع أو التي تمر في مرحلة إعادة البناء ومساعدتها على بناء نظمها التعليمية بحيث تفي باحتياجات كل الدارسين، مؤكدة أيضا على التحديات التي تواجهها جهود التعليم في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفي جنوب آسيا وفي أقل البلدان نموا.[2]

وبشكل عام فإن تقارير الرصد السنوية التي تصدرها المبادرة، بما في ذلك التقرير الخاص الذي صدر سنة 2011 تحت عنوان “الأزمة الخفية: النزاعات المسلحة والتعليم” تظهر أن النتائج التي يتم تحقيقها في مجال التعليم في ظل النزاعات لازالت جد هزيلة مقارنة بالطموح.[3]

2. الأهداف الإنمائية للألفية MDGs -2015، فقد عبرت هذه الأهداف عن أجندة الأمم المتحدة للتنمية خلال الفترة الممتدة من 2000 على 2015. يؤكد الهدف الثاني من هذه المبادرة على تحقيق تعميم التعليم الابتدائي بتمكين الأطفال في كل مكان، سواء الذكور أو الإناث، من ‏إتمام مرحلة التعليم الابتدائي، بحلول عام 2015‏.

مرة أخرى تخفق هذه الجهود في تحقيق أهداف التعليم المرجوة. ففي عام 2015، كان هناك 57 مليون طفل في سن التعليم الابتدائي غير ملتحقين بالمدارس. كما أنه في البلدان المتأثرة بالصراعات، زادت نسبة الأطفال غير الملتحقين بالمدارس من 30% عام 1999 إلى 36% عام 2012. [4]

وتجدر الإشارة هنا إلى المبادرة الرائدة التي اتخذتها دولة قطر بحرص من سمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع ومؤسس ورئيس مجلس إدارة مؤسسة التعليم فوق الجميع لتدارك هذا الإخفاق بضمان تعليم أكثر من ١٠ مليون طفل عبر العالم، ولقد كانت سموها الدافع الرئيسي لاعتماد قرار الأمم المتحدة A / 74 /  الذي اعتمد يوم 9 سبتمبر يوما عالميا لحماية التعليم من الهجمات.

كما كان لسموها وجهة نظر واضحة مفادها أن هناك حاجة إلى يوم دولي لتسليط الضوء على وباء ألمّ بأكثر من 75 مليون طفل وشاب الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و 18 عاما والذين هم حاليا في حاجة ماسة إلى دعم تعليمي في 35 بلدا من البلدان المتضررة من الأزمات.

 3. أهداف التنمية المستدامة SDGs-2030، وهي بمثابة الجيل الثاني من أجندة التنمية العالمية. مرة أخرى، اعتبر التعليم بما في ذلك التعليم أثناء النزاعات واحدا من أهم أولويات أجندة التنمية الجديدة، فقد أكد هدفها الرابع على ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع في أفق 2030، كما أكدت الأجندة أيضا على التحديات التي يواجهها التعليم في ظروف النزاعات خصوصا وأن 50% من الأطفال المحرومين من حقهم في التعليم عبر العالم يعيشون في مناطق النزاع.[5]


[1] دستور منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة.

[2] إطار عمل مبادرة التعليم للجميع 2000.

[3] تقرير رصد التعليم للجميع.. الأزمة الخفية: النزاعات المسلحة والتعليم 2011.

[4] خطة الأهداف الإنمائية للألفية 2015.

[5] خطة أهداف التنمية المستدامة 2030.

عبد ربي بن صحراء
خبير لدى قطر الخيرية
يعبر المقال عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر قطر الخيرية.

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق