كيف يخدم الإبداع في الأدب والفن العمل الإنساني

علي الرشيد
2020-10-07

يتابع حوالي 18 مليون شخص صفحة “هيومانز اوف نيوريوك ” أو “ناس نيويورك” على الفيسبوك. وأكثر من 10,6 مليون شخص يتابعونها على حساب الانستجرام. ورغم ضخامة هذا العدد إلا أنه لا يعدّ مستغربا لأن الصفحة تلامس هموم الناس. بالإضافة إلى محاولتها تقديم قصصهم الحقيقية بصورة واقعية، وتعكس ظروفهم الإنسانية التي يمرّون بها من خلال الكلمة الصادقة والصورة المعبرة.



“ناس نيويورك”

ليس هذا فحسب؛ بل تتيح المجال للجميع للتواصل مع بعضهم البعض ومشاركة معاناتهم وأحوالهم الحياتية بشكل أكبر. بل اتجهت إلى تبني العديد من المبادرات الخيرية الناجحة واسعة الصيت، لمساعدة الناس في أوقات الأزمات والضيق، أو المرضى والتخفيف من آلامهم وأوجاعهم.

لم يكتف صاحب هذه المدونة، الأمريكي براندون ستانتون، التي أنشئها عام 2010 بالتقاط مئات الصور لمواطنين من مدينة نيويورك بتقديم نبذة عن حياتهم بجوانبها الاجتماعية والإنسانية أو المشاكل التي يواجهونها فقط. بل سافر خارج الولايات المتحدة وصوّر حياة الناس في أكثر من 20 دولة منها العراق وأوغندا وفيتنام والكونغو وإيران وغيرها.

في عام 2013 قام ستانتون بجمع مواد من صفحته على الفيسبوك في كتاب حمل نفس اسم الصفحة ليكون الأكثر مبيعا ، لفئة الكتب غير الخيالية، حسب قائمة صحيفة قائمة صحيفة نيويورك تايمز. وفي نفس العام تم وضع اسم ستانتون في قائمة “30 شخصا الذين يقومون بتغيير العالم تحت سّن 30” والتي تنشرها مجلة التايمز.

ومن عالم الحقيقة إلى عالم الخيال؛ ولأنّ للأدب والفن رسالة نبيلة في التعبير عن الأفكار والمشاعر السامية فإنهما يمكن أن يكونا داعمين للعمل الخيري من خلال التعريف بالقضايا الإنسانية، وأوجاع الفئات الضعيفة وفتح نوافذ للأمل لهم بطرق ممتعة وجذابة لترسخ في الذهن. وذلك عبر الروايات والقصص والمسرحيات والأفلام واللوحات الفنية.


صورة غلاف رواية أعجوبة " WONDER"
صورة غلاف رواية أعجوبة ” WONDER” – المصدر

الأعجوبة

من هذه الأعمال المؤثرة،على سبيل المثال لا الحصر، رواية أعجوبة ” WONDER”  والتي يمكن تصنيفها ضمن ” التطوع الإبداعي “. فقد صدرت عام 2013 لمؤلفته آر جيه بالاسيو. وأصبح أحد أنجح الكتب وأكثرها مبيعًا لجماهير الفتيان والبالغين على حدّ سواء. ولعل نجاح الكتاب وقدرته على التعامل مع موضوع تقبّل الآخر بهذه الصورة، أدخلاه على برنامج التدريس للصفوف الخامسة في الولايات المتحدة.

وقد تحول الكتاب إلى فيلم عام 2017 حصد ردودا إيجابية كثير منها وصفته كأحد أفضل أفلام الموسم آنذاك. وبأنه” قمة سينمائية جديدة في سينما الأطفال، كونه يناقش المواضيع التي عرضها الكتاب بشكل نوعيّ وعاطفيّ جدًا. ورغم مدة الفيلم التي تصل قرابة ساعتين، فإنّ العيون والخدود لم تجفا خلالها”

يحدثنا الطفل ” اوجست” في الرواية والفيلم عن نفسه ليلفت انتباهنا إلى أنه طفل ولد بوجه مشوه يثير الذعر في كل من يراه، أجريت له العديد من العمليات الجراحية لكن النتيجة لم ترحمه من ردود أفعال من حوله.

كان يدرس في منزله، وفي يوم من الأيام اقترحت والدته أن ينضم إلى مدرسة قريبة من المنزل؛ خاف ” أوجي” من الفكرة وتمنّى أن يظل في حماية منزل والديه، لكنه وافق في النهاية أن يذهب ويجرّب.

يتتبع الكتاب والفيلم رحلة ” اوجست” وهو يخوض معاركه اليومية كطفل مميّز من الداخل ومشوّه من الخارج.. فهل سيستطيع أن يكون صداقات؟ وهل سيحبه الأطفال في المدرسة؟ هل هذا هو الحل الأفضل له أم البقاء في المنزل؟ وهل سيدمّر أحلام والديه إذا قرر عدم تكملة العام الدراسي؟

السر في الواقعية وملامسة معاناة الناس

ولعل سرّ العمل (الكتاب والفيلم) يكمن في واقعيته المؤلمة التي تصف شدّة الأطفال على بعضهم البعض، وفي ذات الوقت توّفر الأمل الحقيقي الدائم في وجود أفراد صالحين في المجتمع الطفولي، أفراد لا تخدعهم شراسة تقبّل الآخرين ولا الضغط الاجتماعيّ. هؤلاء الأفراد هم من يصنعون العالم ويحافظون على بقائه، وهم الأبطال الخارقون بحقّ؛ هم الأعجوبة الحقيقيّة كما ترى الرواية.

وهناك العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي عالجت قضايا إنسانية بطريقة إبداعية مؤثرة ( لا مجال لاستعراضها)  بقيت محفوظة في وجدان البشرية، وتركت أثرا في غرس قيم المبادرة والعطاء، والوقوف إلى جانب أصحاب الحاجة وتقديم الدعم لهم.


صباح الأربيلي : الفنان الذي استخدم الخط العربي للغوص في عمق قضية اللاجئين
إقرأ أيضاً : صباح الأربيلي : الفنان الذي استخدم الخط العربي للغوص في عمق قضية اللاجئين

النماذج التي سبقت الإشارة إليها ـ وأمثالها ـ يمكن أن تندرج في إطار ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح ” التطوّع الفكري أو الإبداعي”. إذ يمكن لأصحاب المواهب الأدبية والثقافية والإعلامية والفنية أن يعالجوا (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) من خلال كتاباتهم وأعمالهم الفنية موضوعات تسهم في التوعية بالقضايا الإنسانية كالفقر والأمراض والأوبئة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية على الأفراد والمجتمعات. وتستدعي ضمنا تحريك الدوافع الخيرية في النفوس من أجل دعم الفئات الضعيفة وتخفيف معاناتها.

نماذج أخرى لـ ” التطوع الإبداعي “

وزيادة عما سبق؛ فإن التطوع الفكري والإبداعي يمتدّ لأمور أخرى كأن يخصص فنان قيمة مبيعات لوحاته الفنية في المعارض ـ بعضها أو كلها ـ  لصالح العمل الخيري، أو عندما تقوم شخصيات مشهورة تحظى بشعبية جماهيرية كالممثلين المرموقين أو المنشدين المميزين بدعم حملات إنسانية بالتعاون مع مؤسسات خيرية من خلال نزولهم للميدان ودعوة الآخرين لمساندتها، أو تقديم أناشيد خاصة بها ( منهم من أطلق عليهم سفراء النوايا الحسنة)، أو عندما يقوم باحث بتخصيص أرباح كتاب ألّفه لمشروع خيري ما، أو مخترع بتصميم ابتكار أو منتج لفائدة ذوي الاحتياجات الخاصة أو أدوات لتسهيل العمل الإغاثي.. وهكذا.    


مصدر الصورة الرئيسية للمقال.

المقال منشور في العدد 23 من مجلة غراس

يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة

علي الرشيد
يعبر المقال عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر قطر الخيرية.

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق