تتنوع في عصرنا الحاضر صور وأشكال الكفالة والرعاية التي توفرها الدول والمجتمعات على اختلاف خلفياتها الثقافية والاجتماعية لفئة الأيتام. ووفقا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونسيف”؛ فإن الغالبية العظمى من الأيتام عبر العالم يعيشون في كنف أسرهم أو كنف أحد من ذويهم. سواء الأم التي تضم أولادها إليها وتتفرغ لتربيتهم بعد موت زوجها، أو الجدات أو الأقارب في إطار ما يعرف بـ ” الأسرة الممتدة”.
ستتعرف عبر هذا المقال على :
وقد يعيش الأطفال الأيتام أو من في حكمهم (كمجهولي النسب) إما في كنف أسرة من خلال ” التبني” (في إطار الأنظمة التي تجيز ذلك). حيث يتسمّى المكفول باسم الأسرة الكافلة كالابن المولود ويرثها. أو “الأسرة البديلة”، وهذا يختلف كليّة عن نظام التبني، فلا يتم تسمية الطفل باسم الأسرة.
وهناك الرعاية المؤسسية من خلال دور ومراكز الايتام أو ملاجئ الأيتام، أو من خلال ما يسمى بـ “قرى الايتام” (sos) التي تتكون من عدة بيوت متجاورة، يعيش في كل منها عدد من الأيتام، بإشراف امرأة تكون بمثابة الأم لهم، وتقوم بتربيتهم. وثمة من يصنف الرعاية الاجتماعية للأيتام وكفالتهم من خلال قسمين رئيسين:
المؤسسات الإيوائية
وهي المؤسسات أو دور الرعاية أو الملاجئ التي تعمل على إيواء الأطفال بمختلف مراحل أعمارهم، وجنسهم، الذين حرموا من الرعاية الأسرية الطبيعية، بفقدان أحد الوالدين أو كلاهما بسبب الموت أو الطلاق أو الانفصال أو المرض أو التفكك الأسري.
وتقوم هذه المؤسسات بتقديم أساليب الرعاية لهم سواء النفسية أو الاجتماعية أو المادية.
ويوجد فيها طاقم من المختصين لرعايتهم والاعتناء بهم، مع توفير الأنشطة التي تساعدهم على تنمية قدراتهم وإمكاناتهم.
المؤسسات غير الإيوائية
وهي تلك المؤسسات التي تتكفل بالأيتام الذين فقدوا آباءهم ويعيشون حياة طبيعية مع أمهاتهم وذويهم أو أسرهم الممتدة كالجد والجدّة والأعمام والعمات وما شابه ذلك. وهو النمط السائد من قبل الجمعيات الخيرية العربية والإسلامية. حيث تقدم من خلالها مساعدة مالية وتنظم للمكفولين برامج وأنشطة دورية في المجالات المختلفة.
وسنوضح فيما يلي تعريفا أكثر تفصيلا لأشكال وأنماط رعاية الأيتام في عصرنا مع أهم المزايا والمآخذ على كل منها:
كفالة ورعاية الأيتام عبر نظام الأسر البديلة
وهو شكل من أشكال رعاية الأيتام السائدة في العالم. تقوم فكرته على احتضان طفل يتيم أو من كان في حكم اليتيم (مثل مجهول النسب) من قبل إحدى الأسر ليعيش بينها كأحد أبنائها، ويتظلل بمظلة أسرة طبيعية. ويجد منها جميع الإشباعات التي يحتاجها سواء النفسية أو الاجتماعية أو المادية. وهو يختلف كليّة عن نظام التبني، فلا يتم تسمية الطفل باسم الأسرة، وتبقى المحرمية قائمة إلا أن تقطع برضاع من الزوجة أو إحدى أقارب الزوجين. كما لا يوجد في هذا النظام مخادعة للطفل أو المجتمع، فهو قائم على الصدق بخلاف التبني القائم على خلاف ذلك.
ولا شك أن هذا النظام أفضل من نظام الملاجئ أوالمؤسسات الإيوائية وأفضل من نظام (قرى الأيتام) لأنه يندمج في أسرة طبيعية ويجد فيها الرعاية والاهتمام مع وجود رب أسرة وربة أسرة دائمين (غير متغيرين). فضلا عن أن حجم حنان الأبوة والأمومة قد لا يتوفر في المؤسسات الإيوائية كما يتوفر في هذا النظام مهما بلغت رحمة وأمانة القائمين على هذه المؤسسات والملاجئ.
كالجسد الواحد
حملة الشتاء .. لأجل فلسطين
إيثارك اليوم.. أمان وحماية ليتيم
كفالة الأيتام عمل صالح يقربنا إلى الله ويهب مظلة أمان ورحمة للأيتام
تحديات نظام الأسر البديلة
إلا أن نظام الأسر البديلة يشكو من بعض السلبيات في تطبيقه (وليس في جوهره). فحجم العطف والحنان اللذين قد تغدق به الأسرة على اليتيم الذي قد يصل حدّ الدلال الذي يفسد الطفل، أو القدرة على التعامل مع الطفل عند الصغر، وعدم القدرة على التعامل معه أو تقبله بعد وصوله لسن البلوغ والكبر. فضلا على عدم حسن التصرف عند إبلاغ الطفل بواقعه الحقيقي. بل إن بعض الأسر قد لا تخبر اليتيم بواقعه مما يجعله يكتشفها بنفسه وبطريقة مأساوية قد تدمر حياته النفسية والاجتماعية.
وهذا النظام معروف في العالم العربي والدول الغربية. ويحظى بتشجيع وزارات وهيئات التنمية الاجتماعية في العديد من الدول العربية في إطار سياساتها الوطنية لكفالة ورعاية الأيتام. منها سلطنة عمان على سبيل المثال لا الحصر. وتقدم بعض الدول مكافأة شهرية للأسرة البديلة نظير احتضان الطفل اليتيم أو مجهول النسب.
وقد جاء في موقع وزارة التنمية الاجتماعية بسلطنة عمان أن ” وزارة التنمية الاجتماعية تقوم بتشجيع الأسر البديلة لاحتضان الأطفال اليتامى، وفق مواصفات ومعايير يتم اختيارها على أسسها، حرصا على تنشئة الطفل في جو أسري صحي، لتكون نشأة صالحة ويخضع هؤلاء الأطفال للإشراف والمتابعة المستمرة”.
ويرى باحثون أن الكفالة من خلال هذا النظام شهد تراجعا في العالم العربي بسبب تعقد الحياة الاجتماعية، والصعوبات المرتبطة بالمحرم.
التبني
كان نظام التبني معروفا قبل الإسلام. إلى أن جاء الدين الحنيف مقررا ما قررته الأديان السماوية كلها من أن النسب لا يُثبت إلا بولادة حقيقية ناشئة عن علاقة غير محرّمة.
فالتبني هو اتخاذ الشخص ولدَ غيره ابنا له، ويجعله كالابن المولود له ويتسمّى باسمه ويرثه. ويغلب لدى العرب استعمال لفظ (ادعاء) على لفظ (التبني) ومنه الدعيّ أي المُتبني.
وهذا النمط سائد في الكثير دول العالم، كنموذج لكفالة ورعاية الأيتام حتى الآن. ويتم التبني في فيها بواسطة عقد أو بمقتضى حكم أو قرار. فيصبح هناك أبوان قانونيان لطفل لم ينجباه، ويربّيانه كفرد في الأسرة ويصبح له الحقوق نفسها والواجبات التي للطفل الشرعي.
الإسلام وإبطال نظام التبني
فالإسلام أبطل التبني وأبطل كل الآثار المترتبة عليه، كما في الآية الكريمة: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم، ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمّدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) (سورة الأحزاب – الآية 5).
قرى الأيتام (sos)
فكرة قرى الأيتام (sos) تتمثل في وجود عدد من المنازل المتجاورة لا يزيد عددها عن 15 منزلا. إذ يوضع في كل بيت عدد من الأطفال الأيتام ومن في حكمهم، بحيث يتراوح عددهم بين (4ـ 9) أطفال من الجنسين، من أعمار متباينة. وتوجد امرأة ترعى هؤلاء الأطفال تكون بمثابة الأم لهم. تقوم بتربية الأطفال وخدمتهم كما لو كانوا أبناءها تماما، وتسمى (الأم البديلة).
لذا يشترط في هذه المرأة المشرفة على المنزل أن تكون غير متزوجة، بل يشترطون عليها عدم الزواج إن كانت ترغب في الاستمرار في العمل لديهم.
ففلسفة هذا المشروع الاجتماعي لرعاية الأيتام تقوم على الاقتراب من الحياة الأسرية في المجتمع. ويكون ذلك بأن تقوم كل أسرة بتنظيم شؤون منزلها بنفسها ليشعر الأطفال بالجو الأسري.
كما يجب أن يكون هناك اتصال وثيق بين أطفال القرية والمجتمع حولهم. ويتم ذلك بالانتظام في المدارس الخارجية، وكل طفل ذكر ينهي مرحلة التعليم الإجباري (الأساسي) ينتقل إلى بيت الكبار ليواصل تعليمه، ويلتحق بعمل، وغالبا ما تبقى الفتيات في القرية لحين تزويجهن (منظمة قرى الأطفال الدولية: 1989).
لكن في دراسة مقارنة أجريت في مصر على أطفال يعيشون مع أسرهم، وأطفال يعيشون في مؤسسة إيواء خاصة (قرية أطفال sos) وجد أن أطفال المؤسسة أقل تكيفا في الجوانب الاجتماعية والشخصية من الأطفال الذين يعيشون مع أسرهم الطبيعية، أي بين أمهاتهم أو آبائهم.
فلسفة نظام قرى الأيتام
وهذه المبادئ لجمعية قرى الأطفال منطلقة من فلسفة صاحب الفكرة التي بدأ هذه القرى وهو ” هيرمان جماينر” حيث يقول في أحد كتبه أن تربية الأطفال في هذه القرى تبدأ بالأمان والحب والحنان الموجود ضمن عائلات (sos) . وبالأخص ذلك الاهتمام الذي يجدونه عن الأم. وهي مبنية لديه على أن الأمومة هي حجر الأساس الذي تبنى عليه تربية الأطفال. فعطف الأم على الطفل ورعايتها له والحنان الذي تمنحه إياه، وكل ذلك لا يوازيه شيء آخر في تربية سليمة. ولا شك أن فلسفته استقاها من تجربته الشخصية بوفاة والدته وهو في الخامسة من عمره.
وتوجد قرى الأيتام (sos) في عدد من دول العالم العربي مثل: لبنان، مصر، سوريا، السودان، تونس، المغرب، الجزائر، فلسطين.. كما توجد في دول أسيوية وأفريقية مثل: أندونيسيا، باكستان، سيراليون، السنغال، بنغلاديش، النيجر، مالي، أوغندا وغيرها.
نظام الرعاية المؤسسية (دور أو ملاجئ الايتام)
أظهرت دراسة صادرة عن اليونيسف عام 2017 أن ما لا يقل عن 2.7 مليون طفل يعيشون في دور الرعاية في جميع أنحاء العالم. ولكن من المرجح أن يكون العدد الحقيقي أعلى بكثير. حيث تفتقر العديد من البلدان إلى الأنظمة الكفيلة بإنتاج أرقام دقيقة عن عدد الأطفال في الرعاية البديلة.
الإنتقادات الذي يطال ملاجئ ودور الأيتام
ويبدو أن هناك عدم ارتياح لهذه الملاجئ أو الدور. ففضلا عن أنها تحرم الطفل من الإشباع العاطفي والنفسي الذي يمكن أن يجده وسط أسرته (أمه وأخوته) أو مع أقاربه، فإن الممارسات التي تحدث في هذه الملاجئ جعلتها محل نقد من قبل اليونسيف التي خلصت دراستها إلى أن الأطفال الأكثر عرضة للخطر بسبب الانفصال العائلي يتعرضون في دور الرعاية، مثل المؤسسات أو دور الأيتام، لخطر متزايد من العنف وإساءة المعاملة. كما يمكن أن يكون لدور الرعاية تأثير مدمر على نمو دماغ الأطفال، خاصة خلال مرحلة الطفولة المبكرة. بالإضافة إلى الأضرار طويلة الأجل على نموهم المعرفي والاجتماعي والعاطفي.
وتوضح السيدة ليسلي ميلر المستشارة الإقليمية بمنظمة اليونيسف، أثر نمو الأطفال في دور الرعاية بقولها أن الأمر صعب جدا على هؤلاء الأطفال خاصة ممن يوضعون في المؤسسات في سن مبكرة جدا، من وقت الولادة إلى 3 سنوات، والذين نشأوا في هذه البيئة حيث يوجد نقص في التحفيز والرعاية والمحبة والتفاعلات التي كانوا سيحصلون عليها في بيئة أسرية”.
وقد وجدت الدراسة أن أوروبا الوسطى والشرقية وآسيا الوسطى هي المناطق التي تضم أكبر نسبة من الأطفال في المؤسسات، حيث يقدر عددهم بنحو 664 ألف طفل، أي أكثر من 5 أضعاف المعدل العالمي البالغ 120 طفلا لكل مئة ألف طفل.
ووجدت الدراسة أيضا أن الأطفال من الأسر الفقيرة ومن فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، هم الأكثر تمثيلا في دور الرعاية في هذه المناطق. ووفقا للأرقام الإقليمية، فإن نصف الأطفال تقريبا الذين يعيشون في مراكز الرعاية العامة هناك هم أطفال من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة.
تطور نظام الرعاية المؤسسية في التاريخ الإسلامي
بالرغم من اهتمام الإسلام برعاية وكفالة الأيتام فلم يعرف التاريخ الإسلامي دورا أو ملاجئ بمفهومها المعاصر. بحيث يتوفر فيها المبيت للأيتام والرعاية الشاملة. وربما يعود ذلك لعوامل كثيرة. منها أن الأرامل سرعان ما يجدن من يتزوجهن ويكفل أولادهن، أو يساعد الأم التي تحتضن أولادها من أقاربها والبيئة المحيطة بها.
وقد أورد الإمام الذهبي في كتابه “العبر” أن “زين الدين علي كجك” والد “مظفر الدين كوكبوري” بنى دارا للأيتام واللقطاء. كما أن ابنه “مظفر الدين” المتوفى عام ( 630 هـ / 1232 م ) بنى دارا للقطاء ورتب فيها جماعة من المراضع، وكل مولود يلتقط يحمل إليهن فيرضعنه.
وأغلب دور وملاجئ الأيتام في العالمين العربي والإسلامي في العصر الحديث تم إنشاؤها بعد 1840 م منها دار الشفقة التي أنشأتها الجمعية التدريسية الإسلامية عام 1864م. وقد بلغ عدد طلابها 300 طالب عام 1913 م وكانت مدرسة داخلية تقوم بإيواء الطلاب وتوفير احتياجاتهم كافة من مأكل وملبس ومشرب ورعية صحية، وتضم مدارس للمراحل التعليمية الابتدائية والإعدادية والثانوية.
من كتاب “رفقاء … أكبر عائلة في العالم” – سلسلة غراس رقم (11) – قطر الخيرية (بتصرف).